الرئيسية / مقالات رأي / “بريكست” سيلحق الضرر بنا جميعاً… هكذا يعلمنا التاريخ

“بريكست” سيلحق الضرر بنا جميعاً… هكذا يعلمنا التاريخ

بقلم: مايكل هيزلتاين – اندبندنت العربية

الشرق اليوم- أدخل معرض قوس النصر، وستجد الكلمات التي قالها المارشال فوش في العام 1919 في سياق التعليق على اتفاق “فرساي” الذي طوى صفحة تاريخ الحرب العالمية الأولى، مكتوبة بأحرف سوداء كبيرة. وجاء في حكمه الحافل بالتنبؤات، “ليس هذا سلاماً. إنه هدنة لـ 20 سنة”. وهذا محزن جداً، كما أنه صادق للغاية. فكل ما فعلته الحرب التي كانت ستضع حداً نهائياً لكل الحروب، كان خلق الظروف الممهدة للحرب التالية.

لقد استمعت إلى نيفيل تشامبرلين وهو يعلن عبر الإذاعة خبر دخولنا الحرب مرة أخرى، في ذلك اليوم من شهر سبتمبر (أيلول) 1939. وبمقدوري أن اسمع كلماته اليوم بالوضوح نفسه الذي سمعتها به حين كنت في السادسة من عمري، واقفاً في مطبخنا في مدينة سوانزي.

كانت تلك بعض أقدم ذكرياتي. واشتملت على الكشافات الضوئية وهي تبحث عن القاذفات الألمانية أثناء الغارات الليلية، وعلى المنظر من فندق “ريجنتس بالاس” المطل على ساحة بيكاديللي في الليلة التي انتهت فيها الحرب العالمية الثانية، وهو منظر يجعل العين تفيض بالدموع. كان الناس، وكثيرون بينهم يرتدون الزي العسكري، في حال تشبه الهذيان، يرقصون ويضحكون ويبكون أيضاً، ولن أنسى ما حييت تلك المشاعر المتناقضة، وسأتذكر على الدوام الاستنتاج الراسخ بأنه ينبغي أن تكون هناك طريقة أفضل من الحرب لمعالجة الخلافات.

لا تحتاج إلى شهادة جامعية في التاريخ كي تعرف أن قصة بريطانيا هي حكاية مليئة بإراقة الدماء التي سُفكت، سواء في معارك خضناها إلى جانب جيراننا الأوروبيين، أو في أخرى حاربناهم فيها. وقد قاتلنا الرومان ثم الفرنسيين فالهولنديين والإسبان، وأخيراً الألمان، أولاً على اليابسة قبل أن نحاربهم بصورة متزايدة في البحار، بينما أسسنا أكبر امبراطورية لم يشهد العالم مثلها على الإطلاق.

جلب القرن الـ 20 الحروب التي نشبت على مستوى مروع، كما شهد قتل أجيال من الشباب، وإبادة مجتمعات كاملة من المدنيين في ليلة واحدة. كيف يمكن لأي شخص أن يقاوم العزم الشديد على التزام ألا يتكرر الأمر ثانية؟

قاربت القوى الأوروبية ذلك التحدي من منطلق مختلف نوعاً ما عنا نحن، فهم خضعوا للاحتلال وتعرضوا للهزيمة، وحاربوا ثلاث مرات في غضون 75 عاماً من قرن واحد. أما جزيرتنا نحن فكانت أشبه بقلعة وفرت لنا الحماية من بعض أسوأ التجاوزات، وجعلتنا بمثابة الأمل الأخير لمن يسعى إلى استعادة الحرية.

وينبغي على أي شخص مهتم بالمشاعر السياسية المتناقضة المهيمنة بشكل متزايد على التكامل الأوروبي في ذلك الوقت، أن يصغي إلى سلسلة من المقابلات التي أجراها مايكل تشارلتون لمصلحة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، والتي حاور في سياقها سياسيين ومسؤولين ممن واجهوا الحاجة إلى اتخاذ القرار في شأن الدور الذي قد نلعبه حين التقى بنا الأوروبيون في سعينا إلى البحث في شروط اتفاق روما (للانضمام لإلى السوق الأوروبية المستركة في حينه).

كان ونستون تشرشل، المعارض (كان خارج الحكومة على مقاعد المعارضة) في أعقاب الحرب، قد قدم مساهمة كبيرة في النقاش الذي شهدته مرحلة ما بعد الحرب، عندما أعلن أنه ينبغي علينا أن نخلق دولة تكون “نوعاً من الولايات المتحدة الأوروبية”. وهناك جدل حول ما إذا كان يعتقد بأن بريطانيا يجب أن تكون جزءاً من هذه الدولة المقترحة. وبالتأكيد لا يوجد دليل يؤكد بأنه عندما أصبح رئيساً للوزراء من جديد العام 1951، كان مستعداً لخوض المعركة السياسية الحزبية التي كانت إقامة هذه الدولة ستؤدي إليها.

من ناحيته، قال الوزير السابق في حكومة المحافظين في تلك الفترة، راب باتلر، خلال المقابلة التي أجراها معه تشارلتون مستعملاً لغة تلك الأيام، “ببساطة لم تكن واردة. لم تكن واردة. وكنا مخطئين تماماً، بالطبع”.

لكن خطاب تشرشل يُعتبر مهماً من حيث أنه يوضح، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الحركة الأوروبية كانت على الدوام سياسية. ويدعي الخصوم أنهم تعرضوا إلى خدعة بقصد إقناعهم بأننا انضممنا في العام 1973 إلى جهة معنيّة بإجراء ترتيبات اقتصادية.

كان مشروع شومان الذي نظم صناعات الحديد والفحم والفولاذ في أنحاء أوروبا، نقطة الانطلاق في اتجاه تشكيل السوق الأوروبية المشتركة، وهذه أطلق مشروع إقامتها أول الأمر وزير الخارجية الفرنسي، روبرت شومان، ووقعه في 1950.

مرة أخرى، كانت تلك مبادرة سياسية ترمي الى اكتساب سيطرة فوق وطنية [تسمو على السلطة الوطنية] على الصناعات الأساسية اللازمة لشن الحروب، وكانت أوروبا منذ البداية مشروعاً بدأ الاشتغال عليه كمسار سياسي أساسياً، والجميع كانوا يعرفون ذلك.

واجه هارولد ماكميلان الأذى الناجم عن معضلة بريطانيا في فترة ما بعد الحرب، والتحدي السياسي الذي ينطوي عليه قول الحقيقة لأمّة كانت لاتزال مدفوعة بأوهام القوة التي تمتعت بها في الماضي. كان العالم قد تغير، وظهور مصنع [نواة] لتوليد القوة الأوروبي، قوامه الشراكة الألمانية – الفرنسية، علاوة على القوة الأمريكية الفائقة، والتصميم المتزايد على نيل حق تقرير المصير في أنحاء الإمبراطورية، كانت جميعها عوامل جعلتنا في حاجة إلى إعادة تحديد مصيرنا.

رضي ماكميلان بهذا التحدي، وكانت رياح التغيير تهب في اتجاه جديد، وكنا في حاجة لإدراك منطق التاريخ وما يعنيه موقعنا الجغرافي.

من جانبه، أعرب الجنرال ديغول عن شكه في أن الشعب البريطاني كان مستعداً، ولو أنه عاش ليرى ما حصل في استفتاء العام 2016 لكان ذكرنا بأنه سبق أن قال لنا ذلك.

قاد تيد هيث حزب المحافظين الذي دخلت وأبناء جيلي عبره عالم السياسة، وفهمنا تماماً ما كان يجري من حولنا. كان ثمة مصنع لتوليد القوة ذو أهمية عالمية، يتشكل بفضل تعاون دول أوروبية متفاوتة القدرات. هكذا أدركنا أننا معاً سنكون أقوى وأغنى وأكثر تأثيراً، وأردنا أن تكون بريطانيا في قلب هذا التجمع الأوروبي الجديد. كان حزب العمال منقسماً حول الأمر، واختار هارولد ويلسون، زعيمه وقتذاك، إجراء استفتاء، مما ساعده في تجنب تفكك حزبه خلال تلك الفترة، في أقل اعتبار.

أذكر أنني ذهبت إلى أوروبا للمرة الأولى مع والدي في العام 1947، كما زرتها رفقة أصدقائي في 1954، وقطعنا بطريقة “الأتوستوب” المجانية 2500 ميلاً عبر فرنسا وإيطاليا وسويسرا ثم ألمانيا، قبل أن نعود عبر طريق هولندا وبلجيكا. كنا ننام على جانب الطريق أو في النُزل الرخيصة، وقد غابت إلى حد بعيد أوروبا تلك التي رأيناها حينذاك، وتجلى فيها الخراب الذي تسببت فيه الحرب، والهدم والفقر الذي لا يخفي نفسه، أما الذي بقي فهو فخر الأمة واعتزازها.

وقد وضعوا قواعد مشتركة باعتبار أن خطوط الإنتاج الكبيرة تقدم منتجات أرخص. معاً نستطيع أن نتحمل كلفة المنافسة مع أمريكا والصين اللتين تحرص حكومة كل منهما على تأمين الدعم الكبير لقاعدتها التكنولوجية والصناعية، وهذا هو السبب الذي حملني على بذل كثير من الجهد لإنشاء وكالة الفضاء الأوروبية في العام 1973.

إن رغبتنا في توفير السلامة والمعايير البيئية والرعاية الصحية الأفضل لشعوبنا تطغى على أي انحرافات طفيفة حققتها شبكات الإجراءات التنظيمية الفردية، ولا مشكلة لدي مع البحث عن معايير مشتركة مقبولة لسلوك التسامح في أنحاء أوروبا، ومع فرض عقوبات حيث تتعرض هذه المعايير للتجاهل. لقد وقفنا موقف المتفرج لوقت طويل، حين واجهتنا المظاهر المبكرة المتعلقة بغياب التسامح في أوروبا خلال ثلاثينيات القرن الماضي، لكننا قررنا في استفتاء العام 2016، بأقل الفروق بين نسب الرفض والقبول، وعادة لأسباب لا علاقة لها بأوروبا، أن نغادر النادي الأوروبي. أستهجن ذلك القرار، لكن باعتباره تأكد بنتيجة انتخابات العام 2019، فلا يمكنني إنكار التفويض الديمقراطي الذي اشتمل عليه.

أعتقد أنه سيجري قلب هذا القرار رأساً على عقب في يوم من الأيام، لكن ذلك لن يتم قريباً. لقد عكس القادة الحاليون لحزب المحافظين آراء رؤساء الوزراء المحافظين في مرحلة ما بعد الحرب، وهم يتحملون مسؤولية عكس تلك القرارات. هذه خطيئتهم هم.

نحن نغادر النادي، ولم يطلب أحد منا أن نذهب، ولربما اتخذ كثيرون بيننا قراراً مشابهاً في حياتهم الخاصة، ولعلنا غادرنا نادياً أو وظيفة أو فريقاً أو فوجاً أو أي منظمة إنسانية أقيمت كي تعزز مصالحنا الخاصة. لكن كم مرة يمكن لأية منظمة أن تغير قواعد عملها لتسهيل مغادرة من هذا النوع؟ وهل كنت ستغير قواعد عملك أنت حتى تسمح لعضو مغادر أن يقوض معاييرك، وبالتالي يصبح قادراً على المنافسة بشكل أكثر فعالية؟ تغيير القواعد بالنسبة إلى أحدهم سيؤدي إلى مجموعة من المطالبات المماثلة من آخرين. وكم من الوقت يمضي قبل أن يؤدي قدر ضئيل من التغيير إلى كم هائل منه، يستطيع أن يقوض أسس الهيكل نفسه ويسبب انهياره؟

بمجرد أن يبدأ توزيع اللقاحات الجديدة، مما سيسمح برفع ستارة “كوفيد-19” التي حجبت كثيراً من الأخبار، ستتضح العواقب الضارة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تدريجياً. ومن هذه العواقب، على سبيل المثال، الاستثمارات الضائعة والمؤتمرات الأوروبية التي يغيب عنها الصوت البريطاني، والوظائف التي كنا نقوم بها هنا وانتقلت إلى بعض أجزاء سوقنا الأوروبية السابقة حيث يقوم بها آخرون، والمكالمات الهاتفية في شأن الأعمال التجارية وغيرها، التي باتت تُجرى مع عواصم أخرى وكانت سابقاً تُجرى معنا.

ولعل العواقب الأكثر إيذاء تكمن في لغة نزعة التشكيك في أوروبا. إن العلاقات الإنسانية والشخصية بيننا وبين جيراننا الأوربيين لا تقدر بثمن، فنحن نعمل في شركات بعضنا بعضاً، ونقضي عطلاتنا في منتجعات بعضنا بعضاً، ونتزوج منهم ونزوجهم من عندنا، ونشاطرهم إرثاً ثقافياً وتاريخياً هو الآخر نفيس لا تقدر قيمته بثمن، وتتردد أصداء كل عنوان صحافي مسيء عبر القناة.

إذا أردنا الجمع بين الشيء ونقيضه، سنضيع وقتنا في انتظار النتيجة التي لن تأتي، وإذا لم تعد بريطانيا مستعدة للمساعدة في رفع المستوى الاقتصادي للبلدان الأوروبية الأكثر فقراً، فإن رسالتها هذه واضحة. وإذا لم يعد بوسع صيادي الأسماك الأوروبيين أن يصطادوا في مياهنا الإقليمية، فلماذا يجب أن يستمر حي المال في العاصمة لندن بالوصول إلى أسواق العملات الأوروبية. هكذا فإن كل كسب أو ميزة ندعي أنها تتحقق بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تثير التساؤل عمن سيدفع ثمنها. ويعرف المؤرخون ما انتهت إليه نقاشات من هذا النوع.

شاهد أيضاً

أمريكا والمسكوت عنه!

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– الدولة تتكون من شعب وسلطة وإقليم؛ ويكون الشعب فى أعلى …