الشرق اليوم- انسحبت بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي، بحلول نهاية عام 2020، ومن الآن فصاعداً، سترغب في إفساح المجال لنفسها بتحالفات واتفاقات سياسية وتجارية جديدة، وبالفعل بدأت لندن مع أنقرة.
إننا نشاهد هذه التطورات وكأننا أمام لعبة شطرنج، ولكن بريطانيا لا تلعب هذه اللعبة مع أنقرة، بل مع الاتحاد الأوروبي. ويمكنني القول إن هذه هي البدايات التي سنشاهد مراحلها المقبلة، لهذا السبب أشعر بالحاجة إلى تقسيم مقالي تحت عنوانين؛ الأول يتعلق ببريطانيا، والثاني يتعلق بتركيا.
الجزء الأول: علاقة بريطانيا المتشككة مع الاتحاد الأوروبي
انضمت بريطانيا إلى الكتلة التي كانت تعرف آنذاك باسم “المجموعة الأوروبية” في عام 1973، ومنذ ذلك الحين حتى عام 1997 تم وصف هذه العلاقة بأنها “شراكة غريبة”، أو “شريك محرج”. ويبدو أن البلدان التي حارب بعضها البعض الآخر لعدة قرون لم تتمكن من معالجة الشكوك حول بعضها البعض مع هذا التحالف.
أما تطوير هذه الشراكة القائمة على المنفعة المتبادلة فقد تحقق من قبل رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك مارغريت ثاتشر. وعاش التحالف أفضل أيامه في ظل حكومة رئيس الوزراء توني بلير. وخلال هذه الفترة أيضاً، اتخذ البريطانيون عديداً من القرارات المهمة من أجل تكامل أعمق مع الاتحاد الأوروبي، بل إنهم بين عامي 1997-2007، بينما كان سائر الأعضاء يجدون صعوبة في التوصل إلى اتفاق بينهم كان البريطانيون يحبذون التقارب مع سياسات الاتحاد الأوروبي، بل وقيادتها حتى فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وسياسات الدفاع، التي كانت من أكثر القضايا إشكالية بالنسبة للاتحاد. ما هو مثير للاهتمام هو أنه إذا كان لنا أن نسرد أهم بندين من أسباب المغادرة الآن، يمكننا أن نقول: إن أولهما هو السياسة الخارجية، والثاني سياسات الدفاع.
يذكر أن بريطانيا اختارت في السنوات الأولى من تأسيس الاتحاد الأوروبي، البقاء خارج العملية على أساس “المصالح الوطنية”، و”ممانعة تقاسم السيادة”. ومن اللافت أن رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، قال في إشارة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي “هذه لحظة رائعة للبلاد، لقد أخذنا حريتنا بأيدينا، والأمر متروك لنا لنحقق أقصى استفادة منها”، وهذا يفسر مغزى ما أشرنا إليه للتو من “شكوك بريطانيا، وحرصها على سيادتها ومصالحها الوطنية”. وأصبح الجميع يعلم الآن أن الأخيرة تركت الاتحاد الأوروبي لأسباب سياسية وليس لنظيرتها التجارية. فقد كانت ألمانيا وفرنسا المهيمنتان على أوروبا، قد كبلتا لندن سياسياً لنحو خمسين عاماً، وكانت جميع القرارات المتخذة في البرلمان الأوروبي تقريباً نتاجاً للشراكة بين برلين وباريس.
وعلى وجه الخصوص، أدى دعم المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل لكل من إسبانيا وإيطاليا واليونان ودول أوروبا الشرقية التي كانت على وشك الإفلاس، إلى زيادة تحييد بريطانيا في التأثير داخل الاتحاد، ما أدى إلى زيادة رغبتها في الانفصال عن الاتحاد.
لم تتوقف لندن عند هذا الحد، بل أبرمت أول اتفاق تجاري فور خروجها من الاتحاد الأوروبي مع حكومة حزب العدالة والتنمية في أنقرة، التي باتت مصدر إزعاج للاتحاد الأوروبي. وبهذه الخطوة، بعثت المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي برسالة تلوح له بأنها ستنافسه في جميع المجالات.
الجزء الثاني: بريطانيا تستخدم ورقة تركيا الرابحة في مواجهة الاتحاد الأوروبي
بعد يوم واحد من انفصالها عن الاتحاد الأوروبي، عقدت المملكة المتحدة اتفاق التجارة الحرة مع تركيا، وكان ذلك بمثابة طوق نجاة للرئيس رجب طيب أردوغان الذي يواجه التهديد بعقوبات من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة؛ حيث إن خلق تحالفات واسعة مع دولة قوية مثل بريطانيا أعطى تصوراً بأنها ستعزز حكومة حزب العدالة والتنمية، التي تعاني شعبية متدنية جداً لدى الحكومات الغربية. وبالأخص إذا لاحظنا أن هذا الاتفاق يتشكل من 1250 صفحة.
وقد بدأ الحراك الدبلوماسي المكثف بين أنقرة ولندن منذ نحو خمس سنوات مباشرةً في أعقاب الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ونستشف من هذا الحراك المكثف لماذا التزمت لندن الصمت ضد أنقرة في أزمات شرق المتوسط وليبيا وسوريا.
ولا ننسى حقيقة أن بريطانيا تحتل المرتبة الثانية في صادرات تركيا بعد ألمانيا.
وقد أصبح هذا الاتفاق الذي أبرمته المملكة المتحدة مع تركيا خامس أكبر اتفاق تجاري مع البلدان الأخرى بعد اتفاقاتها مع اليابان وكندا سويسرا والنرويج. وبهذا الاتفاق سيرتفع حجم التجارة بين البلدين من نحو 17 مليار دولار، إلى 25 مليار دولار.
وتأتي على رأس قائمة المنتجات التي ستصدرها تركيا إلى المملكة المتحدة حسب هذا الاتفاق متعدد الأوجه: الذهب، والمنسوجات، والملابس الجاهزة، والآلات الكهربائية وغير الكهربائية، والسيارات، ومنتجات الحديد والصلب، والأسلاك المعزولة، والكابلات، والموصلات الكهربائية الأخرى. ومن بين المنتجات ستستوردها تركيا من بريطانيا: المحركات الديزل، ونصف الديزل، والمروحيات، والسيارات، ونفايات الحديد والصلب، والخردة والأدوية.
ومن المؤكد أنني سأكون في مقدمة من يرحبون بكل اتفاق يعود بالنفع لبلادي ومواطنيها، ولن أمانع ذلك، ولكن النقطة التي تثير حفيظتي هي تلك السياسة المتذبذبة التي تودي بالبلد إلى عدم الاستقرار في السياسات، وبالتالي تكون على حساب الثقة بالقرارات الدبلوماسية. فبالأمس عندما كانت تركيا تترنح بين بوتين وترمب، ها هي الآن تدخل مرحلة جديدة تتسم بتضارب علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة.
وإذا كانت الدولة تنطلق من مبادئ ورؤى استراتيجية، فلا يخشى عليها التورط في مزالق التيه من حيث سياستها الخارجية، ولكن الواقع أن حكومة حزب العدالة والتنمية لا تنظر إلى مثل هذه الاتفاقات إلا على أنها دعامات تؤجل انهيارها الوشيك، لكن هناك قضية لا يريد أردوغان فهمها، وهي أنه لن يتمكن من حل الأزمة الاقتصادية الحالية قبل حل الأزمة السياسية في البلاد. ومن ثم، فإن الاتفاق التجاري مع إنجلترا هو أيضاً لن يستطيع وقف انهيار حكومة حزب العدالة والتنمية، بحال من الأحوال.
المصدر: إندبندنت عربية