بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم- يسألني كثر من الأصدقاء ما لك والسياسة وأنت رجل أعمال وصاحب استثمارات ومشاريع اقتصادية رائدة؟ فأجيب دائماً بأن التجربة علمتني أن كلمة السر تكمن في السياسة، وفي بلداننا العربية على وجه الخصوص، “السياسة هيكل شيء”.
والحق أن اهتمامي بها بدأ في وقت مبكر، وساهمت في صقله عوامل عدة، منها محاولتي الإجابة عن ,سؤال قد يتبادر إلى ذهن أي مستثمر أو رائد أعمال عربي: لماذا نجحت بعض الاقتصادات العربية وفشلت أخرى؟ وما سبب نجاح بعض بلداننا في قطع أشواط كبرى نحو دولة الرفاه، في حين ما زالت أخرى ترزح تحت نير مشكلات الاقتصاد التقليدية؟ من ترهل وفساد وسوء تخطيط وبيروقراطية؟
ولأني لا أركن بطبيعتي للأجوبة الجاهزة لتفسير كلّ النجاح الاقتصادي الذي حققته دول الخليج العربية، والتي يوجزها البعض مثلاً بـ”الطفرة النفطية”، دفعني فضولي للبحث عن الأجوبة العميقة إلى الاهتمام بالسياسة والانشغال بقضاياها. ثم اخترت في مرحلة لاحقة أن أخوض غمار الكتابة فيها بعدما حصّلت ما حصّلته من معرفة عن طريق الملاحظة والتفكير والتحليل. والأمل أن تكون دراسة السياسة ومتابعة شؤونها عن كثب ساعدتاني على تشريح تجارب اقتصادية وسياسية عربية نجحت وأخرى كان نصيبها الفشل، في ما يلي.
لعل أهم ما شهده القرن العشرون من حوادث كبرى أثرت في واقع بلادنا العربية ومستقبلها، كان زوال الإمبراطورية العثمانية في بداياته، وخضوعها لوصاية القوى الاستعمارية الأوروبية المتمثلة آنذاك بفرنسا وبريطانيا، ثم حركات الاستقلال التي تلت الحرب العالمية الثانية وحتى بداية سبعينات القرن الماضي.
واجهت بلداننا في تلك المرحلة تحديات كبيرة، من أبرزها الحاجة الملحة لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية، وتأسيس دول حديثة والتخلص من تركات الماضي. وكانت الاشتراكية والليبرالية آنذاك هما التيارين الاقتصاديين المهيمنين عالمياً. وانقسمت الدول العربية فعلياً على الصعيد الاقتصادي: فبعضها سار على النهج الاشتراكي، وبعضها الآخر تبنى الخط الليبرالي.
دخلت السياسات الاشتراكية حيز التطبيق بادئ الأمر في أوائل خمسينات القرن الماضي، وتحديداً مع انتزاع جمال عبد الناصر السلطة في مصر بعد ثورة يوليو (تموز) من النظام الملكي عام 1952. ونُفذت وقتها إجراءات عدة تحت عنوان “الإصلاح” في مختلف المجالات، كالزراعة والصناعة والصحة والتعليم وغيرها من الأمور، كما اعتُمد النهج نفسه الذي سُمي بالنظام الاشتراكي، في بعض الدول العربية الأخرى، كالعراق والجزائر واليمن الجنوبي.
وبطبيعة الحال، فقد اشتمل النظام الاشتراكي على تدخّل الدولة في مختلف مفاصل الحياة الاقتصادية، إلى حد احتكارها قطاعات صناعية معينة، أضف إلى ذلك المركزية الشديدة في التخطيط واتخاذ القرارات.
وهدفت هذه السياسات والإجراءات إلى التخلص من التخلف الاقتصادي الذي أورثنا إياه الحكم العثماني والانتداب الأوروبي، وإلى تطوير الدولة والمجتمع، وإيجاد حالة نهضوية، عن طريق المشاريع الطموحة والكبيرة، وبأقصر وقت ممكن. وتأثرت بالاتحاد السوفياتي وبوعود العدالة الاجتماعية والاقتصادية والمساواة والتوزيع العادل للثروة وسلطة العمال والفلاحين ومجانية الصحة والتعليم وغيرها من الأمور، كما كان الزخم الفكري الاشتراكي في أوجه في تلك الفترة.
لكن، وكما يقال، “لم ينطبق حساب الحقل على حساب البيدر”، إذ جاء التطبيق مخالفاً بشكل كبير للنظرية، ما أدى بهذه السياسات إلى الفشل. ففي المجال الزراعي، مثلاً، أدت عملية الإصلاح وتوزيع الأراضي على الفلاحين إلى تراجع كبير في الإنتاج، أما في الميدان الصناعي فقاد التأميم إلى شيوع البيروقراطية والترهل الإداري والفساد.
ومن أبرز أسباب هذا الفشل أن كل أنظمة الحكم التي تبنّت الاشتراكية وصلت إلى السلطة عبر انقلابات، معظمها عسكرية، لذلك حرص أغلبها على الاستمرار في العسكرة، وبلغت حصة الجيش والتسليح في بعضها نحو 60% من موازناتها الكلية، وهي نسبة عالية جداً أدت إلى تقليص حصص أخرى تعد رئيسة لتحقيق الحد الأدنى من الرفاه لشعوبها، كالتعليم والصحة والاقتصاد والزراعة وغيرها.
وبناءً عليه، أدى النظام الاشتراكي إلى هجرة رؤوس الأموال الوطنية، وعزوف رؤوس الأموال الأجنبية عن الاستثمار في البلدان “الاشتراكية”خوفاً من الاستملاك والتأميم وغيرها من الإجراءات السائدة، الأمر الذي نتج منه حدوث اختلالات كبرى في الأوضاع الاقتصادية، ولم يتم الوصول إلى الثروات اللازمة لتحقيق عملية التراكم الاقتصادي اللازم لتحقيق النمو والرفاه. في الوقت ذاته ونتيجة انتشار المحسوبيات والشخصنة ونظام الزبائنية، حتى على المستوى الاقتصادي، اضطر العديد من الكوادر والكفاءات التي لا تنتمي إلى الفئات الحاكمة، إلى الهجرة، ما سبّب فجوة حقيقية على صعيد الخبرات، انعكست ضعفاً على أداء مختلف المؤسسات والشركات العامة.
على المقلب الآخر، اختارت دول أخرى في الخليج العربي وخارجه النظام الاقتصادي الرأسمالي، الذي يقوم على مبدأ الليبرالية/الحرية، ويتلخص عادة بقدرة الفرد على القيام بأي نشاط اقتصادي يريده، مع ترك الحرية للسوق، لأنها تستطيع تصحيح أخطائها والوصول إلى وضع التوازن من دون تدخّل الدولة.
لم تتبنَ هذه الدول النظام الرأسمالي تبنّياً أعمى، بل أخضعته للمراجعة والتصحيح المستمرين، فبعد حدوث مجموعة من الأزمات، اتّضحت ضرورة إعادة النظر بوضع الدولة في العملية الاقتصادية، وعولج هذا الخلل عن طريق التأثير والتدخل في الوضع الاقتصادي العام، لكن من دون المساس بالحريات الاقتصادية أو الحد منها.
هكذا حققت دول الخليج العربية نهضة حقيقية، انتقلت فيها من بلدان بسيطة تعتمد على الرعي والصيد، إلى أخرى حديثة تمتلك أفضل مقومات الحياة وأكثرها تطوراً، من بنى تحتية وتكنولوجية وغيرها. حتى أنها تخطت الحالة التي تعتمد فيها على النفط مصدراً وحيداً للدخل، فأصبحت تعتمد على اقتصاد متنوع المصادر من تجارة وصناعة وسياحة.
على هذا الصعيد، تبرز دولة الإمارات العربية المتحدة مثالاً بيّناً، إذ اتخذت العديد من الخطوات والإجراءات التي عززت مكانتها كدولة فاعلة على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي، معتمدةً بذلك على أساس اقتصادي متين ومتنوع، ويعطي دوراً مهماً ورئيساً للقطاع الخاص من دون إهمال دور للدولة، الراعية لمواطنيها، والمسؤولة عن رفاههم.
وكانت النتائج إيجابية على المستويات كافة. لقد تطورت دولة الإمارات إلى حد باتت معه في مصاف الدول الأوروبية اقتصادياً وتقنياً، ولم تقبل بأقل من الأفضل في كل بناها وقطاعاتها، وجامعاتها، علاوة على قطاعاتها الصحية والتعليمية والثقافية.
ينطبق الأمر على المملكة العربية السعودية التي صارت في عداد أكبر عشرين اقتصاداً على مستوى العالم، معتمدةً أيضاً على التنويع الاقتصادي من ناحية الموارد، مع وجود دعم واضح للقطاع الخاص ومبادرات ريادة الأعمال.
كما توّجت نهجها بوضع مشروع استشرافي وطموح تجسده رؤية “السعودية 2030” التي تهدف بالعموم إلى تحديث المملكة في مختلف النواحي، وإلى تحفيز الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل، وتؤكد أهمية المنشآت المتوسطة والصغيرة.
وسارت دولة الكويت ومملكة البحرين على خطى جارتيهما، إذ يهدف مشروع “الكويت 2035” إلى إيجاد اقتصاد تنافسي يؤدي فيه القطاع الخاص دوراً محورياً، وتنمية رأس المال البشري، وتطوير البنى التحتية وغيرها. أما مشروع “البحرين 2030” فيرمي إلى تحقيق التنويع الاقتصادي، ودعم استراتيجية تنموية لتحسين بيئة الأعمال، والعمل على مضاعفة الدخل من خلال اقتصاد مُنتِج تنافسي يكون للقطاع الخاص فيه الدور الفاعل، مع الاهتمام بدعم الإبداع والابتكار في تعزيز القدرة التنافسية.
وعليه، يمكننا القول، إن دول الخليج العربية تتبع نهجاً اقتصادياً ناجحاً. وقد أدى ذلك إلى الاستقرار الاجتماعي والفاعلية السياسية. لقد أثبتت الرأسمالية في العالم كله، وفي الوطن العربي، أنها النظام الاقتصادي الأجدى والأبقى، وذلك بسبب ما تتسم به من مرونة وقدرة على التكيف والتصحيح والخروج من الأزمات، فحتى أعتى قلاع الاشتراكية باتت تتبنى الرأسمالية، كروسيا مثلاً، أو حتى الصين التي ما زالت شيوعية في السياسة لكنها رأسمالية في الاقتصاد.
في ضوء هذا الواقع، تحتاج الدول العربية التي تبنّت الاشتراكية يوماً، وتعاني حالياً من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والفساد والبيروقراطية، إلى الدينامية التي يوفرها النظام الرأسمالي لتجاوز الصعوبات التي تعوق نهوضها واستقرارها على مختلف الصعد.
لقد بات تبني خط واضح في إدارة العملية الاقتصادية ضرورة يفرضها حجم المشكلات والتّحديات التي تواجه بلداننا، وأولى ركائزه تتمثل في تبني مبدأ الحرية الاقتصادية على مستوى الأفراد والشركات والمنشآت من دون تمييز بين قطاع عام أو خاص، وإفراد مكانة مهمة لقطاع الأعمال، مع إسناد دور فاعل للدولة في الحياة الاقتصادية بحيث تكون ضامناً للاستقرار، من دون المسّ بالحريات الاقتصادية. ولنا في دول مثل ألمانيا وفرنسا خير مثال على صحة هذا التوجه.
بالإضافة إلى ذلك، نحن بحاجة أيضاً إلى تغيير أفكارنا السابقة التي تنطلق من أنّ الدولة هي المسؤولة عن كل شيء (صحة وتعليم وتخطيط وتوظيف وقرارات…)، والتوجه نحو مبدأ التشاركية بين الدولة وقطاع الأعمال ومختلف شرائح المجتمع، للنهوض بمختلف مناحي الحياة.
آن للدول العربية جميعها، الليبرالية منها والاشتراكية، أن تدرك أن النمو الاقتصادي لا يعتمد على تحرير (أو لبرلة) الاقتصاد فحسب، بل تحرير الفكر المنتج لهذا الاقتصاد ليكون مواكباً دائماً للتغيير من جهة، ولتجاوز الأزمات التي لا بد منها في أي اقتصاد، من جهة أخرى.