بقلم: أنس بن فيصل الحجي – اندبندنت عربية
الشرق اليوم- طُور أمن الطاقة في الدول الغربية منذ عقود، إلا أنه اتخذ منحى رسمياً بعد المقاطعة النفطية في أكتوبر (تشرين الأول) 1973، بحيث أُقر بناء الاحتياطي الإستراتيجي الأميركي، وتأسيس وكالة الطاقة الدولية، ووزارة الطاقة الأميركية، في شأنه. وصاحب ذلك فورة في البحوث الأكاديمية والمؤتمرات بلورت المفهوم، الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي.
ومع مرور الزمن ركز الباحثون والسياسيون في بحوثهم على أمن الطاقة في الدول المستهلكة، وقلما نجد أي بحوث أو جهود في هذا المجال في دول “أوبك” أو “أوابك”. ونظراً لشيوع المفهوم على أنه خاص بالغرب والدول المستهلكة، اقتنع عدد من المسؤولين في بعض دول “أوبك” بأنه لاحاجة لهم في هذا الموضوع من وجهة نظر الدول المنتجة.
الواقع أن كل دولة، سواء منتجة أو مستهلكة، تحتاج إلى تعزيز أمن الطاقة، إن لم يكن جزءاً من الأمن القومي فعلى الأقل هو جزء من الأمن الاقتصادي والاجتماعي والصحي. ومن ثم حان الوقت للدول العربية من خلال “أوابك” أو جامعة الدول العربية أو أي تنظيم آخر أن تركز على أمن الطاقة فيها.
الأمر، يقتضي توفر إمدادات للطاقة داخل حدود الدولة باستمرار وبتكاليف معقولة. الاستمرارية هنا ضد الانقطاع. والتكاليف المعقولة تعني أنها في متناول أغلبية المجتمع، إن لم يكن كله.
المشكلة أن ما ذكر أعلاه ليس بهذه السهولة. فهو يتطلب قوانين وتشريعات، واستثمارات ضخمة، ومعرفة تقنية وجامعات مرموقة وإعلاماً فعالاً. أضف إلى ذلك قدرات دفاعية وأمنية لمنع الهجوم على منشآتها، بما في ذلك الهجمات السيبرانية.
لكن عوائد هذه الجهود والاستثمارات لا تقدر بثمن، لأنها تسهم في الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وفي زيادة كفاءة عنصرَي العمل ورأس المال، والاستثمارات المحلية والأجنبية، وانخفاض الإنفاق الحكومي على المشاكل الصحية والاجتماعية، وإعادة توجيهه إلى مجالات أخرى. ما يحقق تنمية اقتصادية حقيقية من جهة، ومعدلات أعلى من جهة أخرى. في النهاية، “الطاقة” عصب الحياة في كل القطاعات!
أساسيات أمن الطاقة
يتطلب أمن الطاقة تنويع مصادرها. يعني أنه حتى على الدولة النفطية أن تخفف من استخدامها بغض النظر عن الأهداف البيئية، ولهدف تعزيزها. وعلينا أن نتذكر أنه عندما ارتفعت أسعار النفط إلى ما فوق 140 دولاراً للبرميل، خسرت بعض الدول النفطية أموالاً طائلة في صيفي 2007 و2008 لأنها اضطرت إلى حرقه لتوليد الكهرباء بأسعار بسيطة جداً بسبب الدعم الحكومي. بعبارة أخرى، في الوقت الذي دفع فيه المواطنون أسعاراً رخيصة جداً للكهرباء، وقع البلد في خسائر مالية ضخمة. هنا نجد أنه يمكن للدول أن تستفيد من تجربة السعودية، حيث تحاول التنويع عن طريق إحلال الغاز محل النفط من جهة، وبناء طاقة متجددة في أماكن محددة تجمعها خاصية ارتفاع تكاليف نقل النفط والغاز إليها، في الوقت الذي خففت الإعانات لمصادر الطاقة بشكل كبير.
لكن الاعتماد على الطاقة المتجددة يحتاج إلى “التنويع” أيضاً. وليس فقط على الطاقة المتجددة، وكل الألواح الشمسية وعنفات الرياح والأبراج مستوردة من دولة معينة لأنها الأرخص. عند الحديث عن “الأمن”، فإنه قد يتعارض في كثير من الأحيان مع كلمة “الأرخص”. أمن الطاقة يتطلب تنويع الواردات في هذه الحالة حتى لا يقع البلد رهينة لآخر يمنع تصدير مستلزمات الطاقة المتجددة أو قطع الغيار. كما إن تنويع الواردات يتطلب تجنب استيرادها من ميناء واحد. وما يزيد الطين بلة أن التحالفات الدولية تتقلب باستمرار والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين قد تؤثر في أمن الطاقة في دول “أوبك” و”أوابك” بطرق مختلفة، مع أن الدول النفطية لا ناقة لها ولا جمل في هذا الخلاف. كل هذا يحتم تنويع مصادر استيراد تكنولوجيا الطاقة المتجددة.
هذا التنويع، إضافة إلى متطلبات التنمية الاقتصادية، يعني تصنيع مستلزمات الطاقة الشمسية ومثيلها الرياح، ولو جزئياً داخل البلاد. عدا عن عدم تركيز المصانع في مكان واحد.
ولعل المشكلة الأساسية في هذا الأمر أن له أبعاداً سياسية واقتصادية وأمنية وتقنية وبيئية وعلاقات خارجية. هي منافسة ومكملة لبعضها في الوقت نفسه، ما يصعب فيه تعظيم أمن الطاقة. إلا أن هناك سياسات سهلة يمكن للدول النفطية أن تتبعها، أهمها تنويع مصادر الواردات المذكور سابقاً، وتحسين الكفاءة في الاستخدام.
تحسين الكفاءة في الاستخدام
ما يميز السعودية عن كل الدول النفطية الأخرى في مجال أمن الطاقة هو برنامج “كفاءة”، الذي حقق نجاحات كثيرة وفي مجالات متعددة. ويمكن ببساطة أن تتكرر التجربة في الدول النفطية الأخرى كنوع من تعزيز “التعاون الطاقي” بين هذه الدول بهدف تعزيز أمن الطاقة للجميع.
تحسين الكفاءة في الاستخدام هو في تعزيز أمن الطاقة، وتخفيض استهلاكها، وتحقيق وفورات مالية ضخمة، كبير جداً، ويصعب وضع قيمة مادية له. فقد أسهمت الإعانات الحكومية لمصادر الطاقة المختلفة على مر عقود في نشوء قطاعات سكنية وصناعية وتجارية تهدر الطاقة بشكل كبير بسبب رخصها، وتم تطوير المباني وفقاً لذلك أيضاً. لذلك، هناك فرصة لتحقيق وفورات كبيرة في الدول النفطية.
ما يميز تحسين كفاءة الطاقة عن غيرها من المشاريع أن تكاليفه أقل، وفي كثير من الأحيان في متناول الجميع. أيضاً يتم من دون التضحية بالمستوى المعيشي ورفاهية الأفراد. كما أن القدرة على التحكم بنوعية الأجهزة المستوردة المستهلكة للطاقة تعني أن الدول النفطية لن تكون مرمى لكل ما يحاول أن يتخلص منه العالم، وما يعزز من كفاءتها من جهة، ونوعية الأجهزة من ناحية أخرى.
خلاصة الأمر أن تحقيق أمن الطاقة بوضعه الأمثل صعب، لكن هناك سياسات سهلة يمكن للدول النفطية اتباعها، أهمها تنويع مصادر الطاقة، ومصادر واردات تكنولوجيا الطاقة، وتحسين الكفاءة في الاستخدام. ويمكن للسعودية أن تلعب دوراً كبيراً في تقديم هذه الخبرات للدول النفطية.