بقلم: محمد المحمود – الحرة
الشرق اليوم- يكاد التباين بين عالمي الدين والسياسة؛ في البُنْية والوظائف وشبكة العلاقات وطبيعة التحولات أن يكون من الواضحات التي لا تحتاج إلى تأكيد وتوضيح؛ كما لا تحتاج إلى تفسير وتبرير، إذ هي من بديهيات الممارسات العملية السياسية والدينية في آن؛ على الرغم من نقاط التشابك والالتقاء التي تُتيح ـ وعلى نحو ذرائعي ـ أن يحاول الفاعل السياسي توظيف الطاقات الرمزية للدين، وأن يحاول الفاعل الديني الاستثمار في المجال السياسي الواسع؛ تحت إغراء السلطوية المباشرة النافذة، وما يتبعها من مغانم الجاه والمال.
لكن، رغم كثير من نقاط الالتقاء، ورغم كثير من محاور التفاعل، يبقى أن ثمة طبيعة راسخة في التديين تجد ملامحها في: المَبْدئيّة والثبات والديمومة والتعالي ـ النسبي أو الكلي ـ على الواقع، وطبيعة أخرى مغايرة، راسخة في التسيّس، تجد ملامحها في: التكيّف والتحوّل والتغيّر والمراوغة والارتباط ـ سلبا وإيجابا ـ بضرورات الواقع العيني المباشر. وكلها ملامح لها طابع النسبية في نهاية الأمر؛ إلا أنها في حضورها المعياري تتمايز اختصاصا بهذا المجال أو ذاك المجال.
وأي محاولة لتطبيع المجال الديني بالسياسي، أو لطبيع المجال السياسي بالديني؛ ستؤدي بالنهاية إلى مآزق وكوارث؛ ليس فقط بسبب سوء الفهم الناتج عن الخلط التبادلي بين مجالين لكل منهما منطقه الخاص، وإنما ابتداء بسوء الفهم، وما يترتب عليه من خطوات عملية ناشزة، وصولا إلى تأزمات واختناقات في مجال التدبير السياسي وفي مجال التوجيه الديني، لن تتوقف؛ لتكون ابنة لحظتها/ ظرفها المحدود، بل ستبقى تطبع المجالين بطابع التأزم والاختناق الذي يظهر في النهاية على صورة فشل مستدام، تزداد وتيرته بمرور الأيام.
يمكن النظر إلى مسألة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي كمثال للعلاقة بين تديين السياسية وتسييس الدين. هذا الصراع الممتد لأكثر من قرن (بداية بوعد بلفور) يتقاطع فيه السياسي مع الديني؛ وفقا لهوية الفاعلين أو لترجيحاتهم الظرفية التي يرونها أكثر نجاعة؛ متجاوزين قناعاتهم الذاتية التي لا يمكن تثميرها على الدوام في مجريات الصراع، بل قد تكون ـ في ظرف ما ـ عائقا من عوائق النجاح في تحقيق المكتسبات الواقعية التي هي الهدف النهائي في نهاية المطاف.
صحيح أن الدولة الإسرائيلية قامت على أساس فكرة دينية/ تاريخ ديني، وأن الحشد لها داخل نطاق الشعب اليهودي في المَهاجِر جرى بتوظيف الدين أساسا/ غالبا؛ غير أن الذين أخذوا على عاتقهم النهوض بهذا المشروع/ مشروع الدولة اليهودية كانوا قوميّين/ علمانيين يهود؛ وليسوا متدينين يهود. أي أن الدين اسْتُحْضِر لا بوصفه الأصيل/ الحقيقة المطلقة، بل بوصفه المرجع الوجداني الكفيل بتحقيق أكبر قدر من الحشد لمشروع وَلِيد سيواجه كثيرا من التحديات.
هذا يعني أن الدولة الإسرائيلية ـ ومهما تهوّدت ـ هي دولة مدنية في ممارستها السياسية. ما يعني أن الصراع (الفلسطيني ـ الإسرائيلي) ـ في الجوهر والنهاية ـ صراع سياسي/ مدني. ومحاولة تديين هذا الصراع من هذا الطرف أو ذاك، لا يعني إساءة فهم للواقع فحسب، وإنما يعني أيضا توسيع نطاق الصراع من جهة، وتأبيده من جهة أخرى؛ لتكون حلول السلام مُتعذّرة، بل ومستحيلة، وكذلك حلول الحرب التي ستخلق من مقومات الصراع مستقبلا أكثر مما كان قبلا.
إن تعذّر الحل في هذا الصراع ناتج بطبيعة الحال إلى عنصرين رئيسيين: الأول، هو الاختلال في موازين القوى؛ بحيث لا يجد الطرف الأقوى ما يُغريه/ يُجبره على تقديم التنازلات التي يعتقدها “تفريطا في الحقوق”. والثاني، استحضار الرؤية الدينية بعناصرها الإطلاقية، التي لا تَكْمن إطلاقيتها في حدود الراهن فحسب، بل هي أيضا إطلاقية تاريخية عابرة للزمن؛ تربط الآني بالتاريخي الذي يمتد لآلاف الأعوام؛ بحيث يبدو وكأن تسوية الآني مشروطة بتسوية التاريخي.
المُنْحازون لخيارات السلام يسعون إلى تجاوز هذين العنصرين؛ بإجراء بعض التعديلات عليهما، أو بتفتيت صلادة القناعات الراسخة، وخاصة فيما يخص العنصر الثاني. وهذا لا يكون ـ في معظم محاور الفعل فيه ـ إلا بتجاوز السياق الديني، إلى حيث السياق السياسي. ففي حدود المنطق السياسي تُوجَد الحُلولُ المُمْكنة؛ لا الحلول المطلقة التي لا وجود لها إلا في عالم الأذهان أو عالم الأحلام. والمقصود، أن الحلول العملية بطبيعتها لا تكون إلا سياسية/ بشرط السياسية، ودخول المطلق الديني على الخط السياسي يعني تعطيب شرط الإمكان/ الممكن من الأساس.
وإذا كان هذا الصراع (الفلسطيني ـ الإسرائيلي) يُدار حقيقة من خلال السياسية، على الأقل في مساره التسالمي، وكان الفشل السياسي المتلاحق مرتبط بالعنصر الأول المذكور آنفا (اختلال موازين القوى)، فإن الحركات الأصولية الإسلامية، بل مجمل منطق الخطاب الديني الإسلامي، إضافة إلى الحركات الأصولية اليهودية من جهة أخرى (وإن كانت أقل بكثير؛ من حيث قدرتها على التأثير، من نظيرتها الإسلامية)، تحضر لِتُؤسّس لمزيد من الفشل، بل ولتأبيد الصراع، وتوسيع نطاقه؛ ليتجاوز الطرف الفلسطيني إلى عموم المسلمين؛ كجبهة أولى، وليتجاوز الهدف: “إسرائيل” إلى “عموم الغرب”؛ كجبهة ثانية، حتى يصل ـ أو يصل به المتأسلمون؛ ولو على مستوى الإرادة أو المطالبة ـ إلى مرحلة الصراع الشامل بين الغرب والإسلام.
إن منطق الأصوليين الصرحاء معروف في هذا المجال/ هذا الصراع. ومن حيث هو منطق خاص، مُتَمَايز، يقع في عالم ما قبل حداثي/ ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، فهو غير فاعل، وغير مقبول في سياق جدل الحوار حول الحلول الممكنة داخل العالم العربي والإسلامي. ما يعني أن ثمة مسارا مدنيا ـ وبمستويات مختلفة ـ يجترح الحلول، مسارا مدنيا مَرِنا يقع التوافق في الوعي العام على أنه هو القادر على اجتراح الحلول في ضوء الممكن الواقعي: المُؤطّر بالنظام العالمي/ الشرعية الدولة، والمحدود بحدود مقومات القوة/ النفوذ لطرفي الصراع.
لكن، إذا كان منطق الأصوليين التقليديين الصرحاء يقع في حيّز المنبوذ أو المتجاوز، على الأقل في حدود التعاطي الواقعي (وإن كان الذهني والعاطفي قد يتجاوب معهم على نحو ما)، فإن منطق الأصوليين المُسْتَترين (كالمفكر المغربي/ طه عبدالرحمن)، منطق الأصوليين المتوسلين بمنطق العلم، أو بمنطق الحداثة، أو المتخذين من التفلسف حصان طروادة لتمرير خطابهم الأصولي.. إلخ، يسعى لتديين الصراع ـ من طرف خفي غالبا، وصريح أحيانا ـ؛ ليكون يهود إسرائيل اليوم، اليهود النازحون من روسيا وبولندا وأمريكا.. إلخ هم ـ على وجه التطابق الديني والعرقي ـ يهود خيبر ويهود بني النظير وبني قريظة وبني قينقاع في القرن السابع الميلادي !
المفكر المغربي طه عبد الرحمن، المشتغل على الفلسفة والمنطق تدريسا وتأليفا منذ أربعين عاما تقريبا، والذي قدّم كثيرا من المؤلفات التي تتوسل الفلسفة المنطق في العموم، ولكنها تدور ـ في جوهرها ـ حول التأسيس للأصولية الإسلامية والانكفائية العربية من طرف خفي (خفي على غير المتأمل، بينما هو ظاهر أشد ما يكون الظهور عند أدنى تأمل)؛ ليكون الانغلاق الأصولي/ السلفي على الذات، وعلى سبيل الاعتداد الأجوف بالتراث/ بالذات، هو المشروع المقترح لـ”أمة الإسلام”؛ من أجل استعادة مجدها الحضاري البائد.
إن كل مؤلفات طه عبد الرحمن، وبدأ من عناوينها، إلى تفاصيل هوامشها، مرورا بفهارسها وعناوين فصولها، تنضح أصولية؛ بقدر ما تنضح انغلاقا (ما يَتصوّره/ يتوهمه: اكتفاء بالذات). لكن، كتابه الأخير (ثغور المرابطة)، كان هو الكتاب الذي قال فيه ـ بكل صراحة وبكل تحديد، وبلغة حادّة ومباشرة ـ ما كان يُجَمجِم حوله في كل مؤلفاته السابقة، تلك المؤلفات التي خدعت كثيرين (أو: انخدعوا لها !)، فمنحوه أكثر الألقاب الفكرية فخامة: المُفكّر الكبير، الفيلسوف، المنطقي…إلخ !
على أي حال، تقصر المساحة هنا عن الإشارة لكل ما في كتابه هذا (ثغور المرابطة) من نَفَس أصولي ذي ملامح قطبية، ولهذا سأكتفي بالإشارة إلى بعض ما ذكره عن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي (وهو الهَمُّ الأساسي الشاغل له على امتداد فصول الكتاب)؛ حتى يتضح كيف يُفكّر “الفيلسوف”، “المنطقي”، الذي لن يختلف ـ بأي درجة ـ عن أكثر السلفيين التقليديين الانغلاقيين في مقاربته لجوهر هذا الصراع، الذي أصبح على يديه صراعا دينيا/ تاريخيا بامتياز.
قد يبدو من المضحك (وإن كان ضَحِكاً كالبُكا !) أن يضع عنوانا لأحد فقرات الكتاب التي تتحدث عن إسرائيل بـ “احتلال الأرض وإيذاء الإله”. فهذا العنوان الركيك، فضلا عن لغته التقليدية الممعنة في سذاجتها، يشي بتصوّر احترابي للصراع، ليس صراعا بين البشر، بل بين “بشر ما/ قوم ما” والإله في وجوده المتعالي، هذا الإله الذي يستحضره وكأنه من مكونات الذات (يُظهره وكأنه إله خاص)، الذات التي يصبح العدوان عليها عدوانا على الإله المتعالي، والعكس صحيح !”
بعد ذلك يشرح طه عبدالرحمن هذا “الإيذاء” بقوله ـ وبلغة أسطورية ـ: “يمكن القول بأن إيذاء الإله، عند الإسرائيليين، يشهد به تاريخهم الطويل، إذ أن ذاكرتهم التوراتية والتلمودية، تحفظ أن أسلافهم، منذ أن خرجوا من مصر، وهم ينقضون المواثيق والعهود التي أخذها الحق سبحانه منهم، ويخالفون أوامره ونواهيه، ويؤذون أنبياءه ورسله إليهم، حتى كأنهم في حرب سجال معه؛ ولما كانت هذه الذاكرة تُحدّد مسالكهم في حاضرهم، فقد عادوا إلى هذا الإيذاء الأول، يُحيون به غابر ماضيهم (ثغور المرابطة، 21).
هكذا، يربط “الفيلسوف” الممارسات الإسرائيلية في بداية القرن الواحد والعشرين، بممارسات مُقرّرة في الخطاب الديني تعود إلى ما قبل الميلاد، إلى ما قبل ثلاثة آلاف سنة من الآن. وفي تصوّره: الإسرائيليون، وعلى مدار ثلاثة آلاف عام، هم أنفسهم بأعراقهم وأعرافهم الدينية وتقاليدهم الاجتماعية، لم يتغيروا ولم يتبدلوا عبر تاريخهم الطويل !
ويقول عن الإسرائيليين ـ في لغة تربط السياسي بالمقدس، بل تُطابق بينهما ـ “ولن يستقر لهم قرار، حتى يُعرّضوا “المسجد الأقصى” بكامله للدمار، فيتأتى لهم، حينها، أن يقيموا رمز المِلكية عندهم، أي هيكلا يضاهون به الإله في الاتصاف بالملك” (23). والمنحى الأسطوري في هذا الخوف والتخويف، والذي هو تهويل مهرت الأصولية في شحن العقل الجمعي العربي/ الإسلامي به، واضح، وليس غريبا على الأصوليات، ولكنه، بلا ريب، غريب ـ أو يجب أن يكون غريبا ـ على خطاب يجترحه متخصص بـ”الفلسفة والمنطق”، بل ـ وفق ما يزعمه ويزعمه له مُرِيدُوه ـ من أشهر المتخصصين بهما في عالمنا العربي.
إن طه عبد الرحمن تجاوز مرحلة “تديين السياسة” ليصل إلى مرحلة “أسطرة السياسة” بلغة الدين؛ متوسلا بذلك إلى نقل الصراع من مستواه السياسي إلى مستوى: الكراهية الدينية التي تتماها مع الكراهية العنصرية، أي الكراهية المُؤبّدة/ المطلقة/ المُعمّمة في طرفيها. يقول: “لئن كان الإسرائيليون لا يستحيون من الإله، فبأن لا يستحيوا من الإنسان من باب أولى؛ وإذا كانوا قد آذوا الإله في أخص صفاته، فبأن يُؤذوا الإنسان في أخص صفاته من باب أولى”(ص24).
وكما يُؤسْطِر البشاعات التي يُلحقها بالإسرائيليين تاريخا وحاضرا، نجده يُؤسْطر ـ على نحو إيجابي ـ الطرفَ المقابل/ الفلسطينيين الذين هم جزء من الذات، الذات التي يقف الإله في صفّها، من حيث هي تقف في صفه أزلا وأبدا؛ ممسكة بالحقائق المطلقة. يقول: “الإنسان الفلسطيني أكبر من أن يكون إنسانَ قوم مخصوصين، وإنما هو إنسان العالم كله” (53)، ويقول في هذا السياق أيضا: “فالإنسان الفلسطيني له خصوصية ليست لسواه، إذ أرضه “ملتقى العوالم”، الشهادي منها والغيبي؛ وإرثُه “ملتقى الأبعاد”، الزمني منها والسرمدي؛ ومن كانت هذه صفاته، لا تفيد في معرفة حقيقته “المقاربة التاريخية”، لأنها تسقط بعده السرمدي، حتى ولو لم تسقط عالمه الغيبي، كما لا تفيد في هذه المعرفة ” المقاربة القانونية”، لأنها تسقط عالمه الغيبي حتى ولو لم تُسقط بُعده السرمدي، ولا، بالأولى، تفيد فيها “المقاربة السياسية”، لأنها تُسقط عالمه الغيبي وبعده السرمدي كليهما، فتكون أبعد المقاربات”…إلى أن يقول: “فالإنسان الفلسطيني، لا يمكن أن تُعرف حقيقته، ولا أن تُدفع أذيته، إلا بمقاربة تصل العالم الشهادي لأرضه بعالمها الغيبي، كما تصل البعد الزمني لإرثه ببعده السرمدي” (ص19).
إذا كان ما يطرحه طه عبدالرحمن ليس أكثر من كتابة عقائدية في شأن سياسي، كتابة عقائدية منغلقة أشد ما يكون الانغلاق، فإننا ـ ومن خلال هذه النماذج ـ نجد أنفسنا أمام خلط/ عبث ذي طابع أسطوري، لا تكمن أسطوريته في “غيبياته” فقط، وإنما في “مبالغاته الخرافية” أيضا. وحقا؛ لم أكن لأتعرّض له بهذا النقد الكاشف عن أصوليته؛ لو لم يكن مثل هذا الخطاب الأصولي الانغلاقي الخرافي يُطرح اليوم ـ وعلى نطاق واسع ـ كبديل ذاتي ناجع للتفكير العقلاني/ الحداثي الذي يُكِنُّ له طه عبد الرحمن عداء كبيرا منذ بدايات كتاباته الأولى، وإلى الآن.