بقلم: كرم نعمة – العرب اللندنية
الشرق اليوم- يصف الكاتب مارتن ساندبو لحظة سماع صوت ساعة بيغ بن معلنة ليلة رأس السنة عن مغادرة المملكة المتحدة السوق الأوروبية الموحدة بلحظة تنفيس وطني، كما هو الحال في الدراما التاريخية اليونانية، فلحظة انتصارات بطل الرواية في الماضي هي التي تلاحقه في الحاضر. أعتقد أن الدراما الشكسبيرية لم تحل بعد، ونهاية بريكست لم تتضح بشكل كاف وإن وقّع الطرفان صفقة مرضية.
غطرسة بوريس جونسون وزمرة لاعبي بريكست، ترفض استعادة جملة مارغريت تاتشر لكبار رجال الأعمال البريطانيين في ثمانينات القرن الماضي، وهي تحثهم على تخيل سوق واحدة من دون حواجز مرئية أو غير مرئية، تمنحهم وصولا مباشرا إلى القوة الشرائية لأكثر من 300 مليون من أغنى الناس وأكثرهم ازدهارا في العالم.
كانت تاتشر القوة السياسية وراء سوق أوروبية موحّدة للسلع والخدمات والعمالة ورأس المال. إلا أن زمرة لاعبي الكريكيت من جونسون والمحيطين به، جعلت الأمر وكأن المملكة المتحدة تضيق بالشيء الذي صنعته بيديها.
بعد التصويت على بريكست عام 2016، وبينما البريطانيون يتأملون النفق الذي أدخلوا بلدهم فيه، ظهر جونسون وجماعته يتقدمهم نايجل فراج ومايكل غوف يلعبون الكريكيت، وكأن شيئا لم يحدث.
كانت الطبقة السياسية تترقب بفارغ الصبر موقف جونسون آنذاك وهو يدور في المدن البريطانية بحافلة طويلة تحمل شعار “الخروج”، وقد جهز افتتاحيتين لصحيفة “ديلي تلغراف”، إحداها تدعم البقاء في الاتحاد الأوروبي، الذي أراده رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، والأخرى تدعو إلى التمرد والقطيعة. وقد اختار نشر الثانية.
وقال ديفيد كاميرون، الذي اتخذ القرار الأكثر كارثية في تاريخه السياسي بالذهاب إلى التصويت، “كان جونسون يعتقد أنه سيخسر ولهذا السبب اتخذ خيار المقالين. لم يكن يريد تفويت الفرصة ليكون في الجانب الرومانسي والوطني والقومي لبريكست”.
اليوم تصف الكاتبة كارولين لوكاس في مقال لها بصحيفة “الأندبندنت” الصفقة بمشروع أطلق مع أنصاف الحقائق وأسوأ من ذلك، وانتهى بنفس الطريقة.
كنت أتجول في أوروبا عابرا نفق القنال مع فرنسا، مع بداية استخدام عملة اليورو في يناير عام 2002، مررنا بدوفر وبلجيكا وهولندا وألمانيا في جولة لعدة أيام في المركبة، كان الشعور طاغيا بالوحدة بينما بقيت بريطانيا محتفظة بعملتها في رسالة تفوّق غير مضمونة تزيد من شعور الأوروبيين بغطرستها التاريخية.
اليوم أصبحت هذه الغطرسة تكتفي بعزلتها مع الكلام الملتبس، الذي يطلقه جونسون عن علاقة متكافئة مع الاتحاد الأوروبي، غير أنه لا يستطيع حتى إقناع الذين صوتوا لبريكست بمغادرة أوروبيتهم، فلا يمكن للبريطاني أن يصبح أميركيا مثلا، الجغرافيا لا تتغير وفق التمني، لأنها السند الذي بنى التاريخ قوته عليه.
الاستطلاعات الجديدة كشفت بشكل واضح عن تراجع نسبة كبيرة من الذين صوتوا لبريكست، إن لم يشعروا بالندم أصلا، لكن ما أهمية ذلك الآن وفق تعبير روبرت شريمزلي الكاتب في صحيفة “فاينانشيال تايمز”، لأن الحديث الشجاع والفارغ عن الإيقاع بين دول الاتحاد الأوروبي لم يحقق شيئا يذكر، وفي حين كانت المملكة المتحدة تتشاجر مع نفسها، احتفظت الكتلة بجبهة موحدة إلى حد ما، وهو ما ينبغي أن يكون تحذيرا مفيدا للسياسيين البريطانيين في المستقبل.
فصفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ستجعل المملكة المتحدة أمة فقيرة وأكثر عزلة. أو بتعبير أدق لوكالة الصحافة الفرنسية “سيخبرنا التاريخ ما إذا كان الانفصال عن الاتحاد الأوروبي قد حرر القوى الإبداعية في بلاده كما يدعي بوريس جونسون، أم أنه أضعف مكانتها كما يخشى مؤيدو البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي”.
كذلك كتبت صحيفة “الغارديان” معبرة عن ندم البريطانيين المصوتين للخروج في افتتاحيتها ليلة الطلاق قبل حلول العام الجديد بساعات، متسائلة: ماذا يعني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من حيث السياسة الخارجية؟ هناك خروج بالطبع. لكن هذا كان مسألة تعكس ضيق الأفق في سياسة المملكة المتحدة. فقد افتقر النقاش الداخلي باستمرار إلى منظور عالمي. وفشل في فهم تكلفة التنازل عن مقعد في القمم الأوروبية. والرأي القائل بأن عضوية الاتحاد الأوروبي ضخمت القوة البريطانية، طغى عليه خطاب استعادة السيادة الأسطورية.
من أكثر النكت التي يقرأها البريطانيون اليوم باستياء بعد صفقة الخروج، توجه جونسون المأزوم إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المأزوم هو الآخر. كنوع من التعويض الاقتصادي بين بريطانيا وتركيا التي لا تترد بوصف الاتحاد الأوروبي بأنه كيان يعيش تحت وقع الصدمة ولا يبدو أمامه طريق آمن.
وبينما أعلن بنوع من الاحتفال المبالغ فيه، عن توقيع تركيا وبريطانيا عن اتفاقية للتجارة الحرة، في توقيت متزامن مع إعلان صفقة الخروج من السوق الأوروبية، يتساءل البريطانيون عما إذا كانت هذه الصفقة الموجودة أصلا نوعا من التعويض، أم مجرد تذكير أو حنين بوريس إلى أصوله التركية!