بقلم: جيمس زغبي – الاتحاد
الشرق اليوم- في الوقت الذي ندخل فيه العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، أمعنت التفكير في حالة الفوضى القائمة في شؤون الشرق الأوسط، وما يمكن القيام به لتحقيق تقدم في المستقبل. فعلى مدار العقدين الماضيين، كتبت بكثافة عن المنطقة، وأجريت استطلاعات مستفصية على شعوبها. واستقيت بعضاً من ملاحظاتي من هذا العمل. فقبل عشر سنوات، نشرت كتاباً بعنوان “أصوات العرب: ماذا يقولون وأهميته”. واستمد الكتاب مادته من استطلاعاتنا للرأي في الولايات المتحدة وعلى امتداد العالم العربي خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وناقش الكتاب ما لا نعرفه في الغرب عن العالم العربي، وسبب عدم علمنا هذا وأخطاء السياسة الخارجية المأساوية الناتجة عن جهلنا بالمنطقة وشعوبها.
وما لاحظناه أن هناك حدثين أساسيين شكلا وحددا ذاك العقد، وهما الهجمات الإرهابية المروعة للحادي عشر من سبتمبر 2001 والغزو الأمريكي للعراق واحتلاله. وأثبتت الأيام أن حرب العراق هي الأكثر أهمية. فقد انطلقت حرب العراق من الغطرسة والأيديولوجيا العمياء، وكانت أكثر هفوات السياسات الأمريكية الخارجية تدميراً منذ حرب فيتنام. وبنهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كان الأثر المستمر للحرب واضحاً. فقد ورطت الولايات المتحدة نفسها في حرب مكلفة ودموية وبلا نهاية ولا يمكنها أبداً الفوز بها، رغم أنها دخلت القرن الحالي كقوة عظمى بلا منافس. فقد أُهين وأُنهك جيشها. والتكلفة في الأرواح والأموال، سواء للأمريكيين أو للعراقيين، كانت هائلة. وتضرر بشدة الاحترام واسع النطاق الذي كانت تحظى به الولايات المتحدة.
ولم تتوقف تداعيات الحرب عند هذا الحد. فقد أطلقت الحرب عنان الصراع الطائفي في العراق وزادت قوة وجرأة إيران لتتدخل في العراق وغيرها من الدول. وأذكى الاحتلال الأمريكي التطرف السُني وأعطى لتنظيم “القاعدة” فرصاً جديدة ليستقطب متطوعين ويشتد عوده. وبعد عقد من ظهور “أصوات العرب”، نشرت كتاباً بعنوان “عقد مضطرب” استمد مادته من استطلاعاتنا للرأي العام العربي والإيراني والتركي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. واتضح في هذا الكتاب أن التطورات السلبية التي شكلت السنوات العشر الأولى من القرن- وتمثلت في الصراع الطائفي في العراق والتدخل الإيراني وتقلص قدرة وقيادة الولايات المتحدة- كان من المقرر أن يكون لها تأثير متزايد التدمير في العقد الثاني من القرن. وهذه البيئة غير المستقرة بالفعل زاد طينها بلة حالة الاضطراب التي تسبب فيها ما أصبح يُطلق عليه “الربيع العربي”.
فقد كان النظام الإقليمي القديم ينهار لكن ليس بالطريقة التي استشرفها أصحاب النظريات الأيديولوجية السذج في إدارة بوش. فقد توقعوا انتصاراً حاسماً في العراق يؤدي إلى صعود الولايات المتحدة كقوة عالمية بلا نظير وإلى انتشار الديمقراطية في الشرق الأوسط. والواقع أن العكس هو ما حدث. ثم دشنت إدارة أوباما عهدها بوعد كبير تمثل في إخراج الولايات المتحدة من الحفرة العميقة التي وجدت البلاد فيها. لكن المهمة تبين أنها أكبر من الوعود التي قطعتها الإدارة على نفسها. وتفاقمت المشكلات ووهنت مكانة الولايات المتحدة مما جعلها غير قادرة على لعب دور بناء في المنطقة بسبب وتعثر إدارة أوباما في العراق وما أعقب ذلك من الافتقار إلى المتابعة وانحسار الاهتمام بالمنطقة.
وتركت المغادرة الأمريكية المتعجلة من العراق حكومة شديدة الطائفية في السلطة مما أدى إلى تفاقم الاستياء السُني، فتحول تنظيم “القاعدة” إلى جماعة “داعش” الأكثر دموية. وفي فترة قصيرة، شقت “داعش” طريقها بالإرهاب لتسيطر على مناطق واسعة من العراق. ولم تبل إدارة أوباما بلاء أفضل في باقي المنطقة. صحيح أنها قامت بمبادرات واعدة كثيرة في معالجة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكنها تراجعت في مواجهة العناد الإسرائيلي والدعم القوي لإسرائيل في الكونجرس. وفي مواجهة ما عُرف ب”الربيع العربي”، وجدت إدارة أوباما نفسها في معضلة. فقد ترددت في مصر وسوريا واليمن، ثم تدخلت في ليبيا دون قصد أو قدرة على المواصلة مما ساهم في تفاقم الأوضاع في البلد الغني بالنفط.
وحتى الإنجاز الوحيد للإدارة، الاتفاق النووي مع إيران، لم يتمخض إلا عن تفاقم التوترات الإقليمية. صحيح أنه قد يكون تخلص من خطر البرنامج النووي الإيراني لكنه أدى إلى تعزيز جرأة إيران في التدخل في المنطقة. وهذا جعل الدول السُنية أكثر قلقاً من الدور الإيراني في العراق وسوريا واليمن. ومن علامات هذا العقد الأدوار التي لعبتها الحركات السنية والشيعية المسيسة والمسلحة التي انتهزت فرصة الاضطرابات العميقة وتسببت في فوضى وصراع في مصر والبحرين واليمن وسوريا وبالتأكيد في العراق. وبدلاً من عالم أحادي القطب تتصدره الولايات المتحدة، أصبحت المنطقة ساحة قتال لأقطاب متعددة.