الرئيسية / مقالات رأي / ميركل . . . “سنتدبر الأمر”!

ميركل . . . “سنتدبر الأمر”!

بقلم: إيمان درنيقة – النهار العربي


الشرق اليوم – “سنتدبّر الأمر”… تلك كانت عبارة ميركل الشّهيرة التي تحوّلت الى قول مأثور أخذ يتردد في مختلف الأروقة في ألمانيا.


وبالرّغم من الكمّ الهائل من الانتقادات والاعتداءات الّتي تعرّضت له ميركل جرّاء هذا التّصريح الّذي اعتبره العديد خطأً فادحاً أفقدها شعبيّتها لمدة من الزمن، إلّا أنّ ميركل قد تمكّنت فعلاً من تدبّر الأمر، جاعلة من نفسها “قصّة النّجاح” الأهم في العالم.


وبدافع من الطموح الشّخصي والجهد الحقيقي، استطاعت المستشارة الألمانيّة القوية أن تغيّر ليس فقط الثقافة السياسية الألمانية التي عادةً ما كان يهيمن عليها الذكور، بل أن تغيّر بلدها على طول الطريق.

تشكّل ميركل الّتي صنّفتها مجلة “فوربس” الأميركية بـ”السيدة الأقوى في العالم”، ووصفها الإعلام بأنّها “المرأة الحديديّة” وأطلق عليها اللاجئون العرب لقب “ماما ميركل” أفضل نموذج من نماذج النجاح السياسي المعاصر، الّذي يمكن لكل من النّساء والرّجال في السّياسة تقليده على حدّ سواء.


نشأت ميركل في ألمانيا الشّرقيّة الواقعة تحت الحكم السوفياتي الشّيوعي، ومع انهيار جدار برلين، هدمت ميركل كل الجدران أمامها ودخلت هذه المتخصصة الكيميائية عالم السّياسة. انضمت الى الحزب المسيحي الديمقراطي وعُيِّنت نائبة للسكرتير الصحافي في حكومة لوثاردي ميزيير، ووصلت إلى البرلمان في أوّل انتخابات بعد الوحدة ومن ثمّ أصبحت وزيرة للمرأة والشّباب ومن بعدها وزيرة للبيئة والسلامة النوويّة.


وفي عام 2005 أصبحت أول مستشارة في تاريخ ألمانيا وأوّل مواطنة من ألمانيا الشّرقية تقود البلاد. وبسبب إنجازاتها الاقتصادية وقراراتها الحكيمة والحاسمة، أعطاها الألمان الثّقة مجدّداً للاستمرار في الحكم وذلك في أعوام 2009، و2013 و 2017. أربع ولايات متتالية تمكّنت ميركل من خلالها التأكيد أنّ عالم السياسة ليس حكراً على الرّجال أو عصيّاً على النساء، إذ إنها وباعتراف أكبر الديماغوجيين على المسرح العالمي – دونالد ترامب، وفلاديمير بوتين – قائدة بكل ما للكلمة من معنى.


نعم! لقد صنعت ميركل التّاريخ كثيراً منذ 22 تشرين الثاني / نوفمبر 2005، وهو تاريخ تولّيها الحكم، واستطاعت أن تتّخذ قرارات قوية مثل إلغاء التجنيد الإجباري وتمرير الحد الأدنى للأجور، وإنهاء اعتماد بلادها على الطاقة النووية لا سيّما بعد انفجار فوكوشيما، وإبقاء الاتحاد الأوروبي وإنقاذ اليورو عام 2008، وأخيراً قرار استقبال مليون ونصف المليون لاجئ في أزمة اللاجئين في 2015، وهو القرار الذي اعتبرته صحيفة “الغارديان” الأميركيّة بأنه مقامرة آتت ثمارها.

إنجازات ميركل الاقتصاديّة
قررت ميركل وضع الحدّ الأدنى للأجور للمرّة الأولى بـ 8.5 يوروات في السّاعة، وهذا ما ساعد القسم الشرقي للبلاد الذي كان يعاني من الفقر المدقع على النّهوض، وأكملت نهضة ألمانيا الاقتصاديّة، فأصبح اقتصاد البلاد في عهدها الأوّل أوروبياً. قلّصت ميركل البطالة من 12.9 في المائة عام 2005 حتى 4.8 في المائة عام 2018 بحسب الاحصاءات، أمّا عجز الميزانيّة الذي كان عند وصول ميركل يقدّر بـ 3.5 في المائة، تحوّل اليوم إلى فائض يقدّر بـ 8 في المائة من الناتج المحلّي الإجمالي. والأهم من كل ما سبق هو الدور الذي أدته أثناء أزمة اليورو التي كادت أن تؤدي بالعديد من الدول الأوروبية إلى هاوية الإفلاس والانهيار لولا ميركل الّتي وقفت ضامنة للوحدة الأوروبية وقدمّت المساعدة لهذه الدول بعد أن فرضت خططاً تقشّفيّة على الحكومات المعنيّة، كتخفيض الأجور وزيادة ساعات العمل ورفع السن القانونيّة للتقاعد… حتى تعافت اقتصادات هذه الدّول وخرج اليورو من أزمته؛ وهكذا جعلت ميركل من ألمانيا عملاقاً يفرض شروطه على الجميع بقوّة السياسة والاقتصاد، مثبتة أنها صاحبة “أفعال لا أقوال” أو شعارات فارغة.

قراراتها الحاسمة
لعلّ أهم قرار اتخّذته المستشارة أنغيلا ميركل كان إقفال عشر مفاعلات نووية لا سيّما بعد حادثة فوكوشيما عام 2011، ولعلّ الهدف من هذا القرار كان دفع ألمانيا الى تغيير منظومات الطّاقة النووية وحضّها على الاعتماد على مصادر طاقة بديلة كالرياح والطاقة الشمسيّة والطاقة المائيّة والكتلة الحيويّة، وقد تحقّق هدف ميركل فعلاً، إذ إنّ 85 في المائة من إجمالي احتياجات الطّاقة يتم توفيره اليوم من طريق الطاقة البديلة، كل ذلك حتى تصل ألمانيا إلى نقطة الحياد المناخي!


نضيف إلى ذلك قرار ميركل إعطاء إجازة الأمومة مدفوعة الأجر لمدّة 14 شهراً لأي من الوالدين، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على عاطفتها وإنسانيّتها. والأهم من هذه القرارات كان قرارها استقبال اللاجئين ضمن سياسة الباب المفتوح والذي اعتبره البعض أنّه أسوأ قرار في التاريخ وأنّه “وصمة عار”، وأن ميركل غلّبت “قلبها” على حكمتها في هذه المرة، لذا فقد “انتهت”، إلا أنّ ميركل أثبتت أيضاً أنّها على حق في ما ذهبت إليه، بخاصّة أنّ ما يزيد على نصف هؤلاء اللاجئين قد حصلوا على عمل وهم يدفعون الضرائب لخزينة الدولة الألمانيّة.

في عالم مكدّس ضدّها، انتصرت ميركل من خلال مزيج من الثّبات والمثابرة والتحضير والحساب والأنا المكبوتة. لم تلعب ميركل على أي وتر قومي أو إيديولوجي أو عرقي، ولم تشن أي حرب، ومع ذلك فقد تمكّنت أن تجعل ألمانيا الدولة العظمى منذ الحربين العالميتين، من دون أي رصاصة؛ فقط عبر الكفاءة العلمية.


آمنت ميركل أن “ألمانيا قوية” وأنّها “ستتدبر الأمر”، لذا لم تدخّر أيّ جهد في مواجهة الأزمات واستطاعت بذلك أن تهيمن على السياسة الألمانية لمدة 15 عاماً وأن تقود ألمانيا نحو النجاح.


واليوم، وبحلول السنة 2021، وعلى مرمى شهور من نهاية فترة ميركل التشريعيّة ورحلتها مع السياسة، نقول: نعم لقد فتحت المستشارة الألمانيّة ميركل الباب واسعاً أمام طموحات النّساء في كل أنحاء العالم، ومثلّت بشخصيّتها الحنونة والعاطفية والحاسمة والقاسية في الآن عينه شخصيّة العديد من النساء اللواتي يصلحن لتلك المناصب والمسؤوليات واللواتي عليهن دراسة المستشارة ميركل والاستلهام منها ومن نجاحاتها.


كم نحن بحاجة اليوم في لبنان الى قيادة ميركل وإلى رسالتها المفعمة بالتفاؤل “سنتدبّر الأمر”، بينما نحن في لبنان، ننحدر نحو القعر ونرزح تحت ثقل أزمة اقتصادية ومعيشية غير مسبوقة ونعيش في كنف دولة عقيمة عميقة قائمة على المحاصصات والميليشيات.

ويصح السؤال ولبنان في مرحلة خطيرة من الانهيار السّياسي والاقتصادي والمالي والمعيشي، هل سنستطيع أن “نتدبر الأمر؟”.

شاهد أيضاً

أوكرانيا

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– فى العادة فإن الاستدلال عن سياسات إدارة جديدة يأتى من …