الرئيسية / مقالات رأي / عالم ما بعد 2020

عالم ما بعد 2020

بقلم: د. محمود محيي الدين – المصري اليوم

الشرق اليوم- ساعات وتنطوى صفحات سنة الجائحة العاتية والركود العالمى وزيادة الفقر والجوع والبطالة وتفاقم الديون. ولما تضمنته هذه السنة من لحظات فارقة ستبقى فى الذاكرة يؤرخ بها لما كان قبلها وما سيأتى بعدها، فقد جرى فيها فى بضعة أيام وأسابيع ما كان معتادًا أن يستغرق سنوات من التغيرات والحوادث المؤثرة فى حياة عموم الناس وأسباب معيشتهم.

وقد جاءت أزمات هذه السنة بتيارات كاشفة ومعجلة ومنشئة. ففى تياراتها الكاشفة ما أظهر قدرات المجتمعات ونظمها واقتصاداتها على التعامل مع الصدمات واحتوائها فارتبكت دول غنية فى تعاملها مع الوباء، وقد كان ينظر لها على أنها من ذات البأس الاقتصادى والقدرة المؤسسية، فى حين صمدت دول أخرى بعضها أقل دخلًا وثراءً، ولكنها كانت أكثر تنظيمًا والتزامًا، وحظًا أيضًا. وفى تياراتها المعجلة برزت أنشطة تكنولوجيا المعلومات والرقمنة وحملت لشركاتها أرباحًا غير مسبوقة ونموًا كان من المفترض أن تمر سنوات قبل تحقيقه، كما انزوت أنشطة أخرى عجّلت الأزمة بنهايتها، التى كانت آتية حتمًا، إذ كانت تصارع من أجل البقاء فى العصر الرقمى رغم افتقادها لمقومات الصمود والمنافسة فيه مع بدائل أقل تكلفة وأعلى كفاءة من خلال المنصات الرقمية، خاصة فى مجالات تجارة السلع الاستهلاكية والمنزلية، مع تسارع فى معدلات زيادة التجارة الإلكترونية المستعينة بقواعد البيانات الكبرى والذكاء الصناعى، مع تحول تدريجى من تجارة اعتمدت على الحاويات إلى الاستعانة بالطرود على النحو الذى تسير عليه شركة “أمازون” الأمريكية ونظيرتها الصينية “على بابا”، وهو ما دفع شركات أخرى مثل “وول مارت”، عملاق تجارة التجزئة التى بلغت إيراداتها العام الماضى نصف تريليون دولار، للدخول بقوة فى مضمار التجارة عبر الإنترنت بعد عهود من النمو تقليديًا من خلال فروعها المنتشرة فى أمريكا وحول العالم. ينبغى بطبيعة الحال التفرقة بين أنشطة تتعرض لمشكلات سيولة عارضة بسبب الأزمة وأخرى تعترضها أزمات هيكلية معوقة لاستمرارها.

أما وأن الأزمات التى شهدها عام 2020 منشئة أوضاعًا جديدة، فهو ما ستسفر عنه الأشهر المقبلة من العام الجديد، ومن ملامحها المبكرة ما يجعلنا متطلعين إليها باستبشار لا يغفل ضرورة التحوط والحذر فى عالم شديد التغير. وجدير بنا النظر إلى المستجدات الخمسة التالية وتطوراتها ونحن نتحسس الخطى الأولى فى عام 2021:

1- نشر اللقاح وعوارضه الجانبية: أحدث الإعلان عن تطوير لقاحات من جهات أمريكية وصينية وأوروبية وروسية عدة اطمئنانًا لإمكانية السيطرة على الوباء المستشرى. وتشير الأرقام إلى أن من إجمالى ما سيُنتج العام المقبل من جرعات اللقاح حجزت الدول المتقدمة منها 3.5 مليار جرعة لتلقيح مواطنيها، فى حين لم تقم آلية “كوفاكس” التى تديرها منظمة الصحة العالمية لإتاحة اللقاح فى الدول الأقل دخلًا بتدبير أكثر من 200 مليون جرعة، وتتفاوض للتعاقد على 500 مليون أخرى، وهو ما لا يكفى بحال لتوفير اللقاح فى الدول النامية، خاصة أن هذه الآلية تعانى عجزًا يقترب من 85 فى المائة من إجمالى احتياجاتها التمويلية المقدرة بنحو 38 مليار دولار. وفضلًا عن مشكلة التمويل فهناك مخاوف تتعلق “بتسييس اللقاحات” بما يحد من سهولة انتقالها عبر الحدود. وفى تحقيق أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” تتوقع ألا يصل اللقاح لمواطنى الدول النامية كافة قبل عام 2024. وهذا هو ما يقصد هنا بالآثار الجانبية للقاح، فيما يتجاوز الأبعاد الطبية على متلقيه، حيث سيتسبب هذا التفاوت فى مدى إتاحة اللقاح إلى مزيد من عدم العدالة فى توزيع الفرص والدخول حول العالم بتأثيرات سلبية على قطاعات الإنتاج والنمو والتشغيل وقيود متباينة على حركة السفر والسياحة وانتقال العمالة بين الدول.

2- إعادة تشكيل معالم العولمة: لن تندثر العولمة الاقتصادية بسبب صدمة “كورونا” وتعطيلها خطوط الإمداد، ولكنها ستعيد النظر فى مساراتها، فالعولمة بمكوناتها الأساسية المتمثلة فى حركة التجارة ورؤوس الأموال والعمالة وتبادل المعارف والتكنولوجيا ستستمر، ولكن بمزيد من الاعتبار لدور متنامٍ للأقاليم الجغرافية الاقتصادية. ففى استقصاء إحصائى لشركة الاستشارات “ماكينزى” أجرته على عدد من المديرين التنفيذيين لشركات عالمية فى شهر مايو (أيار) الماضى، أعلن 93 فى المائة منهم عن عزمهم على تأمين مدخلات إنتاجهم وسلعهم الوسيطة بجعلها أكثر قربًا من مراكز التوزيع ومقراتهم الرئيسية، وذكروا من مخاوفهم تأثير الحروب التجارية، وكذلك الأبعاد الخاصة بالبيئة ومعايير تشغيل العمالة. وقد شهد العالم من قبل نزوعًا لترتيبات إقليمية كلما تعثرت العولمة. وقد نرى أمثلة لهذه التوجهات الإقليمية للاتحاد الأوروبى بعد “بريكست”، وأيضًا الاتفاق الإقليمى الأكبر فى شرق العالم بين دول الآسيان والصين وكوريا واليابان وأستراليا ونيوزيلندا، وكذلك اجتهادات إفريقية لتيسير التجارة بين دول القارة. ومع زيادة حركة التجارة الإقليمية تترافق حركة رؤوس الأموال وربما انتقال العمالة أيضًا إذا تيسرت شروط الهجرة التى لطالما تعرضت لقيود أكبر نسبيًا من تلك المفروضة على التجارة ورؤوس الأموال. وفى كل الأحوال سيتزايد الوزن النسبى لشرق العالم الآسيوى، وسيزداد نزوح مركز الجاذبية الاقتصادية تجاهه، رغم محاولات ستُبذل لتعويق هذا النزوح.

3- تعافٍ غير متوازن للاقتصاد العالمى: بعدما انكمش الاقتصاد العالمى بنحو 4.4 فى المائة جراء الجائحة وما صاحبها من مربكات للأنشطة الإنتاجية، فمع السيطرة على الوباء ونتيجة لضخ حزم التمويل المساندة سيعود الاقتصاد العالمى لنمو فى حدود 5 فى المائة فى المتوسط. ولكن هذا النمو سيكون أكبر فى الصين والهند بمعدلات تقترب من 8 فى المائة، ونصف هذا الرقم فى الولايات المتحدة وأوروبا، وفى حدود 3 فى المائة فى الدول العربية والإفريقية، وسيتباين أداء القطاعات الاقتصادية التى سيتأخر بعضها فى معاودة نشاطه لحساسيته للأبعاد الصحية والتخوف من العدوى.

4- استثمارات ذكية مستدامة: تراجعت الانبعاثات الضارة بالبيئة والمناخ بنحو 7 فى المائة، ولكن كأثر جانبى لتعطل جزئى فى النشاط الاقتصادى وحركة النقل والسفر. ومع عودة الولايات المتحدة لاتفاقية باريس مع الإدارة الجديدة وضخها لتمويل ضخم يبلغ تريليونَى دولار فى مشروعات للبنية الأساسية متوافقة مع هذه الاتفاقية. وقيام الاتحاد الأوروبى بربط تمويل إفاقة الاقتصاد البالغ 750 مليار يورو بشروط الاستدامة وتدعيم البنية الرقمية، وتبنى دول مثل كوريا واليابان برامج مماثلة ترتكز على التحول الرقمى ومقاومة تغيرات المناخ، مع هذا كله ستكون الاستدامة والتحول الرقمى فرسَى انطلاق للاستثمارات العامة والخاصة. ويستلزم هذا منظومة متكاملة لمعايير الإفصاح للتحقق من مدى الالتزام بالتعهدات.

5- بورصات مالية صاعدة بشروط: من المتوقع أن تستمر أسعار الفائدة على العملات الرئيسية فى مستوياتها المنخفضة لفترة لتعين التعافى الاقتصادى من حالة الركود الراهنة بما سيؤثر إيجابًا على البورصات العالمية، والتى ستستمر فى الاستفادة أيضًا من حزم التمويل الممنوحة للشركات والأفراد من الموازنات العامة. كما سيقبل المستثمرون على أسهم الأنشطة المستفيدة من الأزمة كشركات التقنية واللقاحات وغيرها. ولكن ينبغى التحوط ضد مخاطر مؤثرة على الأسواق المالية كالتوترات الجيوسياسية، وما يُعرف بالأمن السيبرانى وتأثيره على شبكات المعلومات، وكذلك تأثيرات تقلب أسعار السلع الأولوية وأوضاع الديون، خاصة فى الدول النامية والأسواق الناشئة.

وفى كل الأحوال، مع الإقبال على عام جديد يحسن بنا التفاؤل بما فيه الخير والاستعداد الدائم لعالم شديد التغير، أما عن التوقعات ومساراتها وما يتحقق منها فكما قال نيلز بوهر، عالم الفيزياء الدنماركى، الحائز على جائزة نوبل “إن التوقع أمر فى غاية الصعوبة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمستقبل”!.

شاهد أيضاً

أوكرانيا

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– فى العادة فإن الاستدلال عن سياسات إدارة جديدة يأتى من …