بقلم: أحمد مصطفى – الخليج
الشرق اليوم- في الساعات الأخيرة قبل نهاية الفترة الانتقالية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، تم التوصل إلى اتفاق يحكم العلاقة بين الجانبين من بداية العام القادم 2021. وعلى الرغم من التصريحات المتشددة من الطرفين، وإلقاء كل طرف اللوم على الآخر، فقد وصل الطرفان إلى حلول وسط لكل القضايا الخلافية في ما يتعلق بالتجارة الحرة، والتعاون الأوسع في كافة المجالات الأخرى.
صحيح أن الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة لم يكن موحد الموقف دوماً، لكن في النهاية تحسم القوى الرئيسية فيه مثل ألمانيا وفرنسا، القضايا الخارجية، ومنها مفاوضات اتفاق بريكست بعدما أصبحت بريطانيا “خارجة” منذ خروجها الرسمي في 31 يناير 2020. إنما الخلاف الأكبر كان في بريطانيا، وحتى داخل حكومة بوريس جونسون وحزبها؛ حزب المحافظين. فهناك تيار على يمين زعيم الحزب ورئيس الوزراء يقوده زعيم الأغلبية في مجلس العموم (البرلمان) جاكوب ريس موج يوصف بأنه تيار “الصقور” الذين يفضلون قطعاً تاماً للعلاقات مع أوروبا والخروج بدون اتفاق، في الوقت الذي نجد فيه بقية القوى السياسية والمعارضة منها خاصة كحزب العمال، مع بريكست باتفاق.
في النهاية، تغلبت البراجماتية السياسية لرئيس الوزراء، ليقدم التنازلات المطلوبة مقابل التنازلات الأوروبية للوصول إلى اتفاق مع أكبر شريك تجاري لبريطانيا. فاتفاق بريكست يضمن تجارة حرة بين بريطانيا ودول أوروبا، تقترب قيمتها السنوية من تريليون دولار؛ إذ إن نصف تجارة بريطانيا الخارجية تقريباً هي مع الاتحاد الأوروبي. والأهم أن الاتفاق يجنب بريطانيا فوضى اقتصادية كانت ستكلفها انكماشاً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2%، وخسائر بنحو 80 مليار دولار وحوالي ثلث مليون عاطل عن العمل في حال كان بريكست بدون اتفاق.
أدرك بوريس جونسون أن بريكست بدون اتفاق قد يكلفه مستقبله السياسي؛ إذ إن كل المتحمسين لبريكست في حزبه، وأصحاب الشعارات المتطرفة ضد أوروبا، سيتركونه وحده يواجه غضب البريطانيين الذين سيعانون فوضى خروج بدون اتفاق. ليس هذا فحسب؛ بل إنه قد يكون مضطراً للعودة إلى الأوروبيين بعد ذلك ساعياً للحصول على اتفاق، ولن يكون أمامه سوى القبول باتفاق ربما أقل مما رفضه قبل نهاية الفترة الانتقالية.
قد لا يكون الاتفاق مثالياً للطرفين، ولكنه يجنب الجميع أضراراً غير مبررة. وليستخدم الطرفان طريقة التسويق السياسية للاتفاق في الأشهر القادمة على أنه “أفضل ما يمكن”، وأنه “يلبي الطموحات”، ليدعي كل طرف أن الطرف الآخر تنازل أكثر، لكن في النهاية تم التوصل إلى اتفاق بحلول وسط تضمنت تنازلاً من الطرفين، لكن الطرف المستفيد أكثر هو بريطانيا، وتحديداً بوريس جونسون وتيار في حزب المحافظين حريص على العلاقات مع أوروبا.
وفي الجانب الآخر، حتى الحريصون على استمرار الاتحاد الأوروبي والحيلولة دون خروج أي من أعضائه، منه، تنفسوا الصعداء. ليس فقط للتوصل إلى اتفاق مع بريطانيا، وإنما لأن بريطانيا في النهاية اختارت الخروج من الاتحاد الذي ظلت لنصف قرن داخله، ولكنها تميل إلى ناحية الغرب عبر الأطلسي نحو الولايات المتحدة أكثر منها نحو القارة التي هي جزء منها.
كانت الاعتراضات البريطانية شبه دائمة على كل خطوة تكاملية أكثر للاتحاد، ولطالما اختارت البقاء خارج اتفاقات كثيرة من العملة الموحدة (اليورو) إلى شينجن (نظام تأشيرة الدخول الموحدة). وكثيراً ما عطلت مفاوضات بشأن أمور كثيرة في الاتحاد، من الدعم الزراعي إلى حقوق العمال.
من المؤشرات أيضاً على براجماتية جونسون، أنه أدرك أن نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية ليست في صالحه. فالآمال التي كانت معلقة على اتفاق تجارة حرة كبير وسريع مع الولايات المتحدة، في ظل إدارة ترامب، خفتت بشدة مع فوز جو بايدن، كما أن إدارة بايدن قد لا تتحمس كثيراً لعلاقة أمريكا “الخاصة” مع بريطانيا على حساب رغبتها في تحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي التي تضررت في فترة رئاسة ترامب.
لكن الأهم هو أن جونسون يدرك أن كثيراً من الشعارات التي رفعتها حملة تشجيع البريطانيين للتصويت بنعم في استفتاء بريكست عام 2016، هي دعاية سياسية وليست بالضرورة حقائق تبنى عليها سياسات واقعية. وعلى الرغم من أنه كان جزءاً من تلك الحملة وشعاراتها، فإن وجوده في الحكم يفرض عليه الاستناد للواقع وليس للدعايات والشعارات الجوفاء أو الملفّقة.