بقلم: أسعد عبود – النهار العربي
الشرق اليوم – اعتباراً من الأول من كانون الثاني / يناير 2021، تعود بريطانيا جزيرة أو “دولة سواحلية” بحسب تعبير بوريس جونسون. وكما كان انتماء المملكة المتحدة إلى عضوية الاتحاد الأوروبي في الأول من كانون الثاني / يناير 1973، في زمن رئيس الوزراء المحافظ إدوارد هيث، نقطة تحول في تاريخ المملكة المتحدة، فإن خروجها الكامل من الاتحاد، سيشكل أيضاً نقطة مفصلية في تاريخها.
ما قبل “بريكست”، ليس كما بعده. وبرغم أن الطلاق الحبي، خفف الكثير من المصاعب التي كانت ستواجهها بريطانيا، لو خرجت من الاتحاد من دون اتفاق مع بروكسل. إلا أن اتفاق ربع الساعة الأخير الذي توصل إليه الجانبان، سيساهم في تفادي الكثير من الخسائر التي كانا سيتكبدانها، لو كانت مرحلة ما بعد “بريكست” ستنفذ عشوائياً، ومشاهد الشاحنات والسيارات التي امتدت لكيلومترات على ضفتي المانش، كانت نموذجاً غير محبب لدى لندن أو بروكسل.
ومع ذلك، فإن دعاة الانفصال في بريطانيا، الفرحين بالانفصال وفي مقدمتهم جونسون، يضعون بريكست في مصاف الانعتاق أو الاستقلال الثاني للبلاد، ويرسمون صورة وردية للمستقبل، لكن ذلك لا يمكن أن يحجب احتمال مواجهة المملكة المتحدة مصاعب جديدة. صحيح أن لندن لم تعد ملزمة بقرارات تصدر عن بروكسل، ولم تعد ملزمة بدفع أكلاف العضوية في الاتحاد، وصحيح أيضاً أن في إمكان بريطانيا إبرام اتفاقات للتجارة الحرة مع تكتلات اقتصادية كبرى بدءاً بالاتحاد، لكن من قال إن “بريكست” لن يشجع اسكتلندا على طلب الانفصال مجدداً عن المملكة المتحدة، لا سيما أن القوميين فيها يضغطون لإجراء استفتاء على الاستقلال، على غرار محاولة جرت عام 2015. ومعلوم أن الاسكتلنديين صوتوا للبقاء في الاتحاد الأوروبي في استفتاء “بريكست” عام 2016.
إن النزعة الانفصالية لدى الاسكتلنديين، قد تتصاعد بعد “بريكست”، وكذلك ربما تكون الحال في إيرلندا الشمالية وويلز. وهذا ما سيرتّب على لندن أعباءً في السياسة والاقتصاد، كي تبقي على اللحمة الداخلية. وعدوى الانفصال لا تشكل تحدياً أمام جونسون وحكومته فقط، بل أمام أي حكومة بريطانية في المستقبل. وبعدما عادت بريطانيا جزيرة، من البديهي أن يتكبّد الاقتصاد خسائر نتيجة الامتيازات التي كانت ممنوحة للشركات وللمواطنين البريطانيين أيام العضوية في الاتحاد الأوروبي. وتطمينات جونسون في هذا الشأن قد لا تعكس الواقع، ولذلك يريد المسارعة إلى التعويض باتفاق للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة. لكن هذه المسألة ربما كانت أسهل عليه لو بقي دونالد ترامب لولاية رئاسية ثانية، وهو كان من أول المهنئين ببريكست والمشجعين على تفكيك الاتحاد الأوروبي كله، أمّا مع مجيء جو بايدن، فإن اتفاق التجارة الحرة، قد لا ينجز بالسلاسة ذاتها، التي كانت مأمولة.
وبقدر ما يطرح “بريكست” تحديات على بريطانيا، يطرح كذلك تحديات على الاتحاد الأوروبي نفسه. وفي مقدم هذه التحديات، إعادة تقويم شاملة للمشروع الأوروبي برمّته، والحؤول دون تكرار التجربة البريطانية. والاتحاد الذي مر بمطبات كثيرة في الأعوام الأخيرة من أزمات بنيوية في اقتصادات أعضاء مثل اليونان وقبرص وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، مُطالب بإصلاحات تضمن تفعيل اقتصادات دوله وتنشيطها، لا سيما في ظل الخسائر التي رتّبها فيروس “كورونا”.
والاتحاد الأوروبي أيضاً، بعد “بريكست”، ليس كما قبله. والتحدي الأكبر يبقى في الوصول إلى صيغة تحفظ الاتحاد من التفكك، في ظل تزايد النزعات القومية المتشددة داخل الكثير من دوله، ما يهدد بتكرار النموذج البريطاني. والتيارات الشعبوية المتصاعدة، حتى في ألمانيا وفرنسا، الدولتين المحوريتين داخل الاتحاد، لا تصبّ في مصلحة المشروع الأوروبي، الذي قام على أنقاض الحرب العالمية الثانية، من أجل تثبيت مرحلة السلام ومنع أوروبا من العودة إلى الصراعات والحروب المدمرة. وعليه، يشكل الخروج البريطاني تحدياً لضفتي القنال الإنجليزي. وعندما يخف زخم الأفراح ببريكست في بريطانيا، ستبدأ مرحلة التأقلم مع واقع جديد، قد لا يكون كله زاهراً، بينما على الضفة الأخرى، فإن استمرار الاتحاد الأوروبي لن يكون بالمهمة السهلة في ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الضاغطة.