بقلم: حسن إسميك – النهار العربي
الشرق اليوم – يحلل الدكتور آلان دونو في كتابه “نظام التفاهة” (ترجمة مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر والتوزيع، بيروت الطبعة الأولى، 2020) بنية النظام الرأسمالي بجميع أنساقه ومؤسساته، بدقة وأسلوب شيّق يثير انفعالات متناقضة لدى القارئ ويمسّه بالصميم.
ويتناول هذا النظام من محاور أساسية عدة تقع في قلب ممارساته، لمعاينة آثاره على أطياف المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة، إذ يرى أننا نمر اليوم في مرحلة تاريخية لا مثيل لها، تسود فيها سيطرة التافهين، كما يدعوهم، على محاور الدولة الحديثة كلها. ولنظام التفاهة هذا رموز تافهة ولغة تافهة وشخصيات وأدوات تافهة. أما سر نجاحه فيكمن في قدرته على إيهام الأفراد بكونهم أحراراً.
يبدأ المؤلف تشريحه النقدي من بذرة النظام الاجتماعي وركائزه، ويقصد بها الأكاديميات وقطاع التعليم، باعتبارها آلة إنتاج المعرفة والثقافة الاجتماعية، فيكشف عن تواطؤ هذه المراكز ذات التوجه الإنتاجي والتجاري البحت الذي يعود بالضرر على الأساتذة والطلبة وحتى على القطاع الإداري، لأنه يجعل الفكرة المحورية لعمل هذه الجامعة أو ذاك المعهد هي زيادة الإنتاج ولو أدى ذلك إلى إهمال غاية العمل التدريسي الأساسية التي تتمثل في تكوين المعرفة ونقلها.
وهذا ينعكس على لغة الكتابة الأكاديمية التي يصفها دونو بالمتعفنة بسبب بقاء كل من يمارسها أسيرا للنهج التجاري إياه. فنظام التفاهة يُقصي أي محاولة للعودة إلى هدف التعليم المعرفي والنهوض به فلا ينتج سوى الكاتب العاطل عن العمل، والمعلم غير المستقر، والأستاذ الجاهل. يتسنى لهؤلاء وحدهم أن يعملوا بشكل حر من دون القلق بشأن عدد الأبحاث التي ينبغي إنجازها سنوياً.
يلقي الكاتب الضوء على المرحلة التي بلغناها في ظل نظام التفاهة، إذ أصبحت المهنية الأكاديمية مجرد روتين تعيس يقضي على البحث والشغف المعرفي، حتى أصبح الخلاص يتمثل في البقاء بلا وظيفة والتمتع بالحرية في الإبداع أو الكتابة أو البحث.
ولا يلبث أن يرتقي الكاتب في بحثه عن التفاهة سلمها إلى مستويات أعلى ليصل إلى التجارة ورأس المال، حيث يحرك اقتصادنا اليوم روبوتات وخوارزميات لسنا قادرين على استيعاب آلية عملها وسرعتها، لكننا مجبرين على دفع ثمن أخطائها. في هذا السياق تُستخدم برامج التثقيف الاقتصادية لتشتيت الناس ومنعهم من إدراك الفوضى السائدة في سوق البورصة. فبدلاً من توعية الفرد بشكل حقيقي تهدف هذه البرامج إلى تضليله. هذا الاقتصاد الغبي كما يسميه الكاتب، يغيّب عقولنا ويطحننا بالضرائب بينما يتغنى بإنتاج الطائرات النفّاثة فائقة التكلفة لأصحاب المال ورؤسائه الفاسدين الذين ينهبون الثروات العامة.
وتبقى الصين حاضرة حين يتناول دونو الصناعة والتجارة. فهو يحذرنا من أن الأوليغارشية خطت خطواتها الأولى بتحويل المشهد الصناعي الصيني نحو المناطق الحرة ومناطق الأوف شور، التي تعتبر ملاذات ضريبية يسهل التداول المالي فيها بعيداً عن أعين القانون، ليتيح المجال للسلطة الرأسمالية بممارسة ألاعيبها كافة لنهب خيرات الشعوب بقانونها الحر. وبدلاً من تطور المؤسسات نحو استيعاب الموظفين وزيادة معدلات الدخل وإنعاش الموارد البشرية، تتجه الشركات إلى تقليل الوسطاء وصرف الموظفين واختصار النفقات لزيادة الأرباح. أما الأخطر في ذلك كله فهو أن المتواطئ الرئيس مع خططهم هي نقابات العمال.
أما عن النتائج الطبيعية لهذا كله فتتلخص بالهوس المالي، وبالقيمة المطلقة التي تتمتع بها النقود فتكون قادرة على تحقيق أية طموحات. ويؤدي ذلك إلى آثار اجتماعية وخيمة كظهور شخصيات تعاني من أمراض نفسية مرتبطة حصراً بالنقود، مثل الجَشع والإسراف والطمّع وغيرها.
ويفرق الكاتب على المستوى الثقافي والحضاري مفهومين للاقتصاد، المادي والوجداني، موضحاً أن الأول أصبح يحكم الثاني؛ إذ لم تعد العفوية والحرية الانفعالية والرفاه العاطفي أموراً ممكنة في منأى عن الحالة المادية، كما بات رأس المال مستحوذاً على كل حق بالرفاه الشعوري، إلى درجة لم تعد فيها حتى الفكاهة قادرة على النيل من النظام التافه.
تتجلى أدوات نظام التفاهة في المشاهير والأثرياء، الذين ينبرون إلى الدفاع عما يسببه من كوارث مدمّرة بيئياً وبشرياً. أما الفنان الحقيقي فيختفي، إذ أن المطلوب هو فن بلاستيكي يُنتج سلعاً فنيةً لا تعكس سوى صورة التفاهة الاقتصادية.
يؤكد دونو في نهاية كتابه أهمية قيام ثورة شاملة على هذا النظام الذي يقودنا إلى الانحطاط الأخلاقي والنفسي والمادي والاجتماعي، على أن تستفيد من أخطاء الاتجاهات الفكرية السابقة، كاليسار مثلاً، فتعمل على تحديد بوصلتها بثقة تترافق بالحرص العميق والنقد البنّاء.
ويستعرض بأسلوب نقدي الحركات والأحزاب التي سعت لتحديد قالب مناسب للتنظيم الاجتماعي البشري، ويشخص الثغرات التي أدت إلى تداعيها ومنعها من الانتشار. ومن أهم هذه العلل الممارسات الفردية الرجعية، أو الابتعاد عن الهدف الجمعي الكفيل بتحقيق نظام مناسب للإنسانية ككل، أو محاولات طمس الملامح الثقافية والاجتماعية ذات الخصوصية الحضارية والتاريخية، أو الاستخدام البيروقراطي المقيت لأفكار إنسانية سامية. كما يأخذ على تيار الوسط المتطرف مركزيته التي أدت إلى نتائج عكسية. ويؤكد الكاتب نجاح اليسار في العمل على تحديد إطار يمكن للذات الجمعية التعاطي مع نفسها من خلاله بطريقة سيادية.
يعدّ هذا الكتاب من أبرز الكتب التي صدرت في هذا العصر والمعنية بنقد النظام الرأسمالي. لكن المؤلف يغض النظر إلى حد ما عن الجوهر الفلسفي لهذا النظام القائم على تكريس الحرية، واحترام الفردانية وتكافؤ الفرص في إطار التنافس الحر. إن هذه القيم في حد ذاتها ليست مؤذية، فالأذى كله يعود للإنسان وليس للنظام نفسه.
وبالنسبة للتجارة وحركة الاقتصاد مثلاً، فالعملة تعد منذ الأزل مجرد أداة للمقايضة، وتحويلها اليوم إلى إلكترونية لا يغير من مفهومها، فالتطور الإنساني ضرورة. لذلك ربما يجب العمل على ردم الهوّة التي يشير إليها الكاتب بين المواطن وسرعة تطور حركة الاقتصاد، والتأكيد على أهمية تعزيز دور برامج التثقيف التي أصبحت بسبب إهمالها، تقتات على كافة قطاعات الحياة الاجتماعية. إن النظام الرأسمالي يؤكد أهمية الضرائب التي تعود بالنفع، والمهم أن نتذكر أنها يجب ألا تكون عبئاً على الطبقة الوسطى بينما يكدس الأغنياء الثروات بطريقة لا إنسانية! ولا ننسى نهب الشعوب الفقيرة في إفريقيا وغيرها وبطرق ملتوية، إذ تتحمل رؤوس الأموال مسؤولية تحسين الوضع المعيشي في هذه البلدان ومحاولة دفعها لاستثمار ثرواتها، وتأمين فرص العمل لمواطنيها بفضل خيرات بلادهم.
في سياق متصل، لقد وصلنا إلى مرحلة أصبح معها المجتمع بأكمله متعطشاً لفن حقيقي يلامس جوهر الوجود الإنساني، فلطالما كان الفن من أكثر الأدوات الإنسانية قدرة على الارتقاء بالمجتمع، ولهذا علينا دعم كافة أشكال الفن الحقيقي الذي لم يتناوله الكاتب في الواقع. وهو موجود، لكنه سيبقى كما كان دائماً فعلاً نخبوياً.
أخيراً… إذا كان كتاب “نظام التفاهة” ضرباً من النقد الذاتي، فإن مراجعة الذات بطريقة موضوعية من ضرورات الحياة. وبطبيعة الحال فالإنحراف والفساد يمكن أن يصيبا أي نظام، ولكن يتحمل النظام الرأسمالي مسؤولية أكبر لتلافي هذه العثرات لكونه أثبت قدرته على التطور والارتقاء بالمجتمع. ولربما تكون دعوة الكاتب للثورة على هذا النظام موجهة أيضاً لأنظمة أخرى كي تستيقظ من سباتها وتبدأ بإثبات جدارتها، وتسعى لتحسين حياة الإنسانية بدلاً من أن تدفع بها إلى الانهيار.