بقلم: عبد المنعم سعيد – المصري اليوم
الشرق اليوم – قد يستغرب القارئ اختياري لكتاب الرئيس باراك أوباما “أرض موعودة” المعتبر مذكراته عن الفترة التي حكم فيها الولايات المتحدة، خاصة أنني انتقدت ما جاء في الكتاب عن زيارته للقاهرة وإلقائه خطابا فيها وزيارته للأهرامات بعدها.
وربما وجد القارئ في الكتاب ما يدعو إلى انتقاد آخر حينما يأتي وقت التعرض لموقفه، وإدارته، للفترة المسماة “الربيع العربي”؛ وهذا وارد بالتأكيد في وقته. ولكن ترشيحي للمذكرات لكي تكون كتاب العام لا يعود بأي معنى لأنه الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة والعالم ربما خلال الفترة القصيرة التي بات فيها متاحا للبيع، فما حدث فعليا أنه بعد صدوره جرى نسخه بطريقة PDF وبعد شرائي للكتاب أتاني ثلاثة نسخ إلكترونية من مصادر مختلفة. ورغم ذلك فإن الانتشار ليس سببا، كما أنه ليس بالضرورة تصويتا، على أنه كتاب العام. الترشيح هنا نابع من حقيقة أن الكتاب بغض النظر عن التفاصيل والأحداث هو عن “الحكم” أو Governance، وليس عن دولة عادية، وإنما عن الولايات المتحدة، ومن شخصية غير عادية من أصل إفريقي كيني وأب مسلم قدر لها البقاء في البيت الأبيض لفترتين رئاسيتين. وأكثر من ذلك، والحديث يسري أيضا على الأوضاع الراهنة، أن الرجل حكم بينما العالم يرتج رجا بفعل الأزمة المالية والاقتصادية الهائلة التي أشهرت نفسها قبل تولي الرجل للسلطة بشهور قليلة. في العادة فإن أغلبية مذكرات الرؤساء الأمريكيين تركز على الأحداث التي شاهدوها، والمنجزات التي حققوها، الشجاع منهم يشير إلى أسباب فشله عند مواقف وأحداث. أوباما شخصية مختلفة، وفضلا عما فيه من خصائص فردية تفرض عليه الامتياز والتفوق بشكل أو بآخر، فإنه كان معدا جيدا للمهمة بما حصل عليه من تعليم في جامعتي كولومبيا وهارفارد لم يأخذه إلى المجال الأكاديمي، فإن شجاعته أخذته إلى مجال السياسة العملية.
سيرة أوباما التي أخذته إلى البيت الأبيض متوفرة في الأسواق الفكرية، وكتابه هو نوع من “التشريح” لمعضلات الحكم في دولة هى العظمى في العالم، وقادم من حزب له تراثه الكبير والواسع، وفي لحظة بدت فيها الأمة الأمريكية في أصعب حالتها من ناحية، وعاقدة عليه الأمل أن ينجز ما لم ينجزه آخرون من ناحية أخرى. لفت نظري في مذكرات “ديك شينى” نائب الرئيس جورج بوش الابن “في زمني أو In My Time”، أنه، وهو الجمهوري، شعر بنوع من الفخر بالتقاليد الأمريكية التي قادت الإفريقي إلى الحكم، وهو يتابع وقائع احتفالات تولي أوباما من راديو سيارته في طريقه من واشنطن إلى ولايته مينيسوتا بعد انتهاء مهمته. كل ذلك ترك أعباء ثقيلة على الرئيس الجديد، ولكن وللحق فإن رئيس الولايات المتحدة ربما كان أكثر قادة العالم استعدادا للتعامل مع مهامه الكثيرة والثقيلة. فطبقا للدستور الأمريكي فإن “مؤسسة الرئاسة” هي مركز السلطة التنفيذية، التي وإن تساوت مع السلطتين الأخيرتين التشريعية والقضائية، فإنها كانت الأكثر تعرضا لنمو النفوذ والقدرة بفعل الحروب العالمية والحروب الأخرى، والأزمات الاقتصادية الكبرى، والأزمات السياسية الدولية التي وضعت العالم أحيانا على حافة الحرب النووية، وكلها أعطت للرئيس الكثير من السلطات الفعلية بغض النظر عن النصوص. ولكن الرئيس لديه ما هو أكثر من ذلك، وهو أن مؤسسة الرئاسة صارت نوعا من المرآة لكل أشكال السلطات الأخرى في الدولة، وفي العصر الحالى فإنها مزودة بإمكانيات معلوماتية واتصالية هائلة. الذائع عما هو داخل البيت الأبيض مجلس الأمن القومي، والمجالس الأخرى الاقتصادية والخاصة بالخطة والموازنة، ولكن هناك ما هو أقل ذيوعا مثل منصب، ومكتب، كبير موظفي البيت الأبيض الذي هو عمليا يساوي رئيس الوزراء في دولة برلمانية، ومهمته الدائمة ليست إدارة الدولة فقط، وإنما تنفيذ برنامج الرئيس الذي عرضه أثناء الحملة الانتخابية. مكتب الاتصالات لا يقل عن السابق أهمية، وهو ليس مكتبا إعلاميا فقط، وإنما هو مكتب لمتابعة الرأي العام الأمريكي متابعة دقيقة بالمكان والزمان والأعمار، والعمل كل ما يلزم للرئيس معرفته عن موقف الرأي العام من كل سياسة؛ والمهمة هي إعادة انتخاب الرئيس بعد فترته الأولى، وبعد ذلك أن تبقى ذكراه طيبة.
رغم كل هذا العون الذى يأتي إلى الرئيس أثناء حكمه، فإن أوباما شرح بدقة أزمة الرئاسة في أمريكا، وأزمته شخصيا، وربما أزمة السياسة في العالم المعاصر من ناحية أخرى. كنت أتصور أن أزمات “الموقف” و”السياسة”، والأولى مبدئية والثانية عملية؛ والأخرى حول “الإمارة” و”الرسالة”، وهي ترجمة أخرى لما سبق، هي فقط من قضايانا في مصر والعالم العربي التي يزداد تعقيدها بالهروب الدائم من الجانب السياسي والعملي تحت أردية حنجورية و”العنتريات التي ما قتلت ذبابة”. ولكن الحقيقة التي واجهها أوباما كان هذا التناقض الذي يكون أكثر جلاء عندما لا يكون هناك هروب، وأكثر من ذلك عندما تعبر المواقف عن قوى اجتماعية وسياسية، ليس فقط الخصوم وإنما أكثر من ذلك الحلفاء في الحزب الديمقراطي ذاته وجناحه اليساري الذي تصور أوباما، أو مؤيدوه، أنه من المشاركين فيه. التعقيد يصل إلى ذروته في القرارات الكبرى للخروج من الأزمة المالية بقانون للإنعاش الاقتصادي، أو عند إصدار قانون الرعاية الصحية، أو قوانين إصلاح سوق المال “وول ستريت” والشركات، أو أخذ القرار بالخروج أو بالبقاء في أفغانستان، وفيها كلها تتصادم قوى اجتماعية وسياسية، ومصالح اقتصادية، والهوى تجاه الفقراء والمساكين، والتعامل مع الحقائق المرة للتعامل مع قضايا المساواة بين غير المتساوين في تحمل الأعباء العامة، مع استمرار النمو الاقتصادى في نفس الوقت. أوباما في كل ذلك يبذل جهدا فائقا في تشريح العناصر والأبعاد، وبقدرة فائقة على التمييز بين شرائح مختلفة، ووسطها جميعا نجده أحيانا ضائعا، ومظهرا لهذا الضياع، بين أشكال مختلفة من الأصوليات الليبرالية والديمقراطية والمحافظة، وهي أصوليات تتحول إلى أشكال كثيرة من الطفولة اليسارية والديمقراطية والليبرالية، كما جرى الحال عندما اقترب من الشرق الأوسط وربيعه الذي أصبح شتاء قاسيا.
أوباما في كل هذه الدوامات الحاكمة لا ينسى نفسه، ودائرة حياته الصغيرة المشكلة منه ومن ميشيل زوجته وخريجة هارفارد أيضا، وابنتيه ماليا وماليسا. ووراء العائلة توجد عائلته في هاواي، وعائلة زوجته في شيكاغو. فرق شائع بين عائلة ولدت في المحيط الهادى، وأخرى عاشت في أكبر مدن وسط الغرب الأمريكي. وفي الحقيقة لا يسلم الكتاب من إشارات إلى حالة من التوتر بين الرجل وزوجته، قد يخفف منها أمجاد البيت الأبيض، ولكنه لا يعفي منها كيف تختلف النوازع بين الزملاء الذين صاروا أزواجا، أحدهما هو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، والأخرى التي كانت العائل الأول للعائلة في فترة من الفترات ثم صارت السيدة الأولى.