الشرق اليوم – لا نعرف ما إذا كان بايدن سيحرز النجاح، فالتدمير أسهل كثيرا من إعادة البناء، كما أظهرت رئاسة ترامب المرة تلو الأخرى، وبصرف النظر عن مدى رغبة بايدن في ملاحقة طموح أوباما في مجتمع أكثر تحضرا، هناك الملايين من الأميركيين ما زالوا يعتقدون أن هذا ليس “من نكون”.
تُـرى ما الذي قد يجعل رئيسا أميركيا في الأسابيع الأخيرة من إدارته راغبا في الانغماس بهذه الوتيرة الجنونية في إعدام سجناء فدراليين، حتى في حين يصدر قرارات عفو في حق أربعة من المرتزقة الأميركيين الذين قتلوا أربعة عشر مدنيا عراقيا بكل قسوة؟ قتلت الحكومة الفدرالية بالفعل عشرة رجال هذا العام، وهذا عدد من عمليات الإعدام بموجب القضاء أكثر من كل ما نفذته كل الولايات الأميركية مجتمعة. ولا نزال ننتظر ثلاث عمليات إعدام أخرى قبل أن يترك ترامب منصبه في الشهر المقبل، إحداها لجريمة قتل ارتُـكِـبَـت عندما كان الرجل المدان أكمل ثمانية عشر عاما من عمره بالكاد، وإحداها ستنفذ في حق أول سيدة تُـعـدَم بواسطة الحكومة الفدرالية منذ سبعين عاما.
الواقع أن سُـعار القتل الذي أصاب إدارة ترامب يتعارض مع كل الأعراف والاتجاهات الحديثة، التي قلصت عدد عمليات تنفيذ الإعدام إلى الصِـفر تقريبا، ولا يزال النشاط المحموم على طابور الإعدام مستمرا حتى حين لا تجد الإدارة المنزوعة الصلاحيات أي شيء آخر تفعله غير الطعن الغاضب في نتائج الانتخابات، والرئيس المنتخب جو بايدن هو الذي يحاول التحدث بتعقل عن أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد19) في أميركا، لا دونالد ترامب.
هل ترجع رغبة ترامب الشديدة في سفك الدماء إلى خسارته الانتخابات؟ أهي مسألة خبث شخصي لا أكثر؟ أم أنها حالة رمزية، تلميح وحشي تجاه “القانون والنظام”، تجعل بايدن يبدو رجلا رقيقا لينا إذا نفذ وعده بإلغاء عقوبة الإعدام؟
في خضم تفكيري في تفسير محتمل، تذكرت نادرة رواها عالِم الحضارة الصينية والكاتب البلجيكي العظيم الراحل سيمون ليز. كان يرد على الصحافي البريطاني كريستوفر هيتشنز، الذي كتب كتابا لاذعا شديد القسوة في انتقاد الأم تيريزا، والذي حمل عنوانا يتوافق بشكل نموذجي مع أسلوب هيتشنز الاستفزازي: “الوضع التبشيري”، فأعرب ليز، وهو كاثوليكي متدين، عن اعتقاده بأن هيتشنز يشعر برهبة شديدة إزاء التفوق الروحي الذي تتمتع به الأم تيريزا حتى أنه كان راغبا في جرها إلى مستواه الوضيع.
سواء كان ليز محقا بشأن هيتشنز أو لم يكن، فإن هذه الحكاية تأتي في هيئة أخرى، فذات يوم كان ليز يعمل في مقهى صاخب في مكان ما في أستراليا، وكان المذياع يبث موسيقى شعبية صاخبة تافهة، ثم، كما لو كان بمعجزة، تغير البرنامج فجأة وسمع ليز صوت خماسية موزارت المفخم المجيد، وبعد لحظة من الصمت الذي خيم على الغرفة خلا صوت المذياع، فنهض أحد الرجال على نحو مفاجئ واقفا على قدميه، وكما لو كان في سورة من غضب، سارع إلى إعادة المذياع إلى الموسيقى التافهة، وسرعان ما بات الشعور بالارتياح في المقهى ملموسا بوضوح.
تأمل ليز هذه اللفتة المتذمرة؛ هل كان ذلك الرجل يكره الموسيقى الكلاسيكية؟ هل كان يمقت موزارت بشكل خاص؟ أو ربما جعله افتقاره إلى الثقافة عاجزا عن تقدير جمال هذه الموسيقى؟ وخلص ليز إلى أن أيا من كل هذا لم يكن السبب، بل على العكس من ذلك، كان السبب على وجه التحديد أن الرجل استشعر جودة الموسيقى إلى الحد الذي جعله راغبا في محوها، لقد جعله موزارت يشعر بأنه ضئيل، وتافه، وجلف، وكان لزاما عليه أن يسحب الموسيقى معه إلى مستواه المتدني.
كان نوع مشابه من العدوان ظاهرا جليا طوال سنوات رئاسة ترامب الأربع، ومع أن باراك أوباما لم يكن خاليا من العيوب كرئيس، لكنه كان دائما ينضح بجو من الكرامة والكياسة، الواقع أن قِـلة من الرؤساء في التاريخ كانوا يتمتعون بموهبته في النثر الإنكليزي. وأوباما ليس كاتبا أنيقا فحسب، بل هو أيضا قارئ مميز فطن، فكان سلوكه في المنصب لا تشوبه أبدا شائبة، ويمثل أوباما هو وزوجه ميشيل نموذجا لزوجين شديدي التحضر.
هذا هو على وجه التحديد ما لم يكن بوسع بعض خصومه الالتزام به، فكان العنصريون يكرهون فكرة أن يحكمهم رجل أسود، لكن حقيقة كونه رجلا أسود مثقفا جيد التعليم جعلت صعوده إلى أعلى المناصب أمرا أشد إيلاما لهم.
أشار العديد من المعلقين في السنوات الأربع الأخيرة إلى أن ترامب كان مدفوعا برغبة جامحة لهدم كل ما بناه سلفه، وجرى تقديم أسباب عديدة: شعور ترامب العميق بانعدام الأمان؛ أو لعبه لصالح قاعدته؛ أو تحيزاته العنصرية. أظن أن حكاية ليز عن المقهى الأسترالي تقدم التفسير الأفضل على الإطلاق، إذ كان لزاما على ترامب أن يمحو صورة الحضارة السامية التي مثلها أوباما، وكان لزاما عليه أن يجر هذه الصورة إلى مستواه.
دأب أوباما على التصريح بأن الغرائز الأساسية الكامنة في زوايا الحياة الأميركية المظلمة كانت هي “من لا نكون” كأميركيين، فكان تعذيب السجناء في “المواقع السوداء” في مختلف أنحاء العالم “ليس من نكون”، والقتل العنصري في الكنائس السوداء “ليس نحن”، وهلم جرا.
كان أوباما قائدا طموحا، وقد عبر في كتبه وخطابته عن مثل الولايات المتحدة العليا، وفي هذا الصدد اقتدى أوباما بمثال مارتن لوثر كنج الابن، فكان كلا الرجلين مدركاً تمام الإدراك لجانب أميركا العنصري العنيف الخشن، وحاول كل منهما جاهدا مناشدة الطبيعة الأفضل في الناس، كانا يأملان أن يرقى بلدهم ذات يوم إلى رؤيتهما له.
هذا هو على وجه التحديد ما استفز عدوان ترامب وأنصاره المخلصين، كان السلوك الفاضح المتحيز وتمجيد العنف هو مفتاح نجاح ترامب، فكلما كانت لغته أكثر خشونة، وسلوكه أكثر فظاظة، ازداد تشجيع مؤيديه له، كان ذلك انتقامهم من أوباما وكل ما كان يمثله.
أما شعبية بايدن فقد استندت إلى العكس تماما، فهو مناهض ترامب الذي يَـعِـد بإعادة الكرامة إلى السياسة الأميركية، ومثله كمثل أوباما، يعبر بايدن عن إيمانه بالعقل والحزبية الثنائية الوطنية، ويَـعِـد بأن تضع إدارته حدا للتخريب الاجتماعي والسياسي.
لا نعرف ما إذا كان سيحرز النجاح، فالتدمير أسهل كثيرا من إعادة البناء، كما أظهرت رئاسة ترامب المرة تلو الأخرى، وبصرف النظر عن مدى رغبة بايدن في ملاحقة طموح أوباما في مجتمع أكثر تحضرا، هناك الملايين من الأميركيين ما زالوا يعتقدون أن هذا ليس على الإطلاق “من نكون”.
ترجمة: الجريدة