بقلم: محمد جميل أحمد – اندبندنت عربية
الشرق اليوم– الاستثناءات التي يتعرض إليها شرق السودان، سواء في تأجيل تعيين ممثليه في مجلس شركاء المرحلة الانتقالية، أو عبر التأجيل الفعلي الذي بدا واضحاً لمسار شرق السودان، يعكس إشكالية خطيرة حيال ما يدور في هذا الشرق. وهذا في تقديرنا يعكس بدوره مأزق شرق السودان الذي انخرط بقوة في الاستجابة لنظام تسييس القبائل، الذي كان النظام السابق مسؤولاً عنه، كون شرق السودان باستعداداته الهشة وعلو شأن عصبيات في قبائل البجا فيه، وهي تمثل غالبية سكانه، بحيث بدا هذا الشرق اليوم بمثابة كعب أخيل الثورة السودانية، ذلك أن مأزق الثورة في شرق السودان ينعكس علاقة عضوية بمأزقها في المركز (الخرطوم) بالضرورة لعوامل جيوسياسية عدة من ناحية، والعوامل المتصلة بمسألة التهميش الذي بدت آثاره ظاهرة اليوم في الحراك القبائلي الذي يتصدر الشأن العام، سواء عبر (المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة)، أو عبر (الآلية التنسيقية لعمد قبائل البني عامر).
لقد كان تأجيل تعيين ممثلي شرق السودان في مجلس شركاء المرحلة الانتقالية انعكاساً لطبيعة الصراع الذي يجري حول مسار الإقليم الذي هو أحد المسارات السياسية لاتفاقية جوبا للسلام الموقعة بين الخرطوم والجبهة الثورية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
مشكلة هذه المنطقة اليوم هي استحقاق ضريبة تهميش متطاول، كما أن استثمار نظام البشير في تسييس القبائل هناك كان إضافة معيقة إلى جانب ذلك التهميش.
ولكي يمكننا إعطاء تصور بسيط لفكرة وخطورة المأزق الذي أصبح عليه شرق السودان اليوم من خلال فائض العصبية القبائلية التي تمارس تسييساً مدمراً لقضايا الشأن العام، سنجد فيه ما لا يمكن أن نجد له نظيراً في أقاليم السودان الأخرى قاطبة، ونقصد بذلك أن وجود شخص مثل موسى محمد أحمد، رئيس أحد أحزاب مؤتمر البجا، (الذي كان حتى يوم سقوط البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019 في القصر الجمهوري في منصب مساعد لرئيس الجمهورية)، ووجود بعض عناصر النظام القديم في قلب الحراك السياسي بعد الثورة وبطريقة تنتفي معها أي حساسية سياسية في المكون الاجتماعي الذي ينتمي إليه موسى، فموسى الذي كان يلتقي من خلال ناظر قبيلته قادة قوى الحرية والتغيير وبعض أعضاء مجلس السيادة، في سعي منه ومن يناصرونه، عبر المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، للحصول على مناصب سياسية مستحيلة بعد الثورة، جسّد تعبيراً واضحاً لذلك السلوك الذي تنتفي معه أي حساسية أخلاقية أو سياسية في مكونه الاجتماعي حيال الفرق بين، موسى السياسي في النظام السابق، وموسى ابن القبيلة التي تريد تعويمه مرة أخرى، عبر دعم ناظرها له، فذلك ما سيكون عائقاً كبيراً وسيظل باستمرار جاعلاً من الحراك السياسي للمجلس الأعلى لنظارات البجا حراكاً خارج المجال الثوري الجديد، لكنه في الوقت ذاته يصبح صوته هو الأعلى في شرق السودان.
إزاء مفارقة خطيرة كهذه، يمكننا أن ندرك المأزق الكبير للثورة في هذه المنطقة بفعل التناقضات والأوضاع التي زرعها عناصر النظام القديم من أجل “تخزيق” العمل العام، كما يمكننا أن ندرك التعثرات التي صاحبت المسار السياسي للثورة في الشرق، سواء عبر أحداث قضية والي كسلا المقال صالح عمار، أو عبر أحداث رفض مسار الشرق من قبل (المجلس الأعلى لنظارات البجا) الذي لا يمكن أن يمثل أي تعبير عن الواقع الجديد للثورة، ومثل هذه المفارقات هي التي صوّرت للمراقبين موقف رفض مسار شرق السودان كما لو أنه موقف مشترك لقوى متحالفة مع الثورة، وقوى مضادة للثورة في الوقت ذاته، وفي تقديرنا أن هذا الموقف من المسار الذي يجمع بين النقيضين في الإقليم يعتبر من مفارقات أوضاعه.
بطبيعة الحال، سنجد أن من أهم المحفزات التي تجعل من الالتفاف القبائلي ممكناً حول تلك الأجسام والكيانات شبه القبائلية، مثل المجلس الأعلى لنظارات البجا والآلية التنسيقية لعمد قبائل البني عامر، هو الواقع الذي اشتغل النظام البائد على تهيئته لمدة 30 عاماً، أي تحويل الشأن العام من شأن سياسي إلى شأن قبائلي عبر تسييس الإدارة الأهلية في شرق السودان، وواقع كهذا، سيصبح حجر عثرة أمام الواقع الثوري الجديد، ما سيضاعف جهوداً خارقة لجعل الواقع الثوري في شرق السودان ممكناً! وفي تصورنا أن هذه المأزق سيظل ماثلاً وعائقاً لكل الترتيبات السياسية والثورية التي سيصار إليها في معالجة قضايا الإقليم، حتى إن المؤتمر العتيد الذي يراهن عليه كثيرون سيكون بلا جدوى تقريباً إذا ما عرفنا مثلاً أن من أهم شروط المشاركة في المؤتمر من قبل “المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة” ستكون نسفاً لموضوعه تماماً، إذ يشترط هذا المجلس لأي مشاركة في مؤتمر حول شرق السودان أن يتم إلغاء مسار المنطقة برمّته، وأن يتم تنفيذ بنود ما سمّي بـ”القلد”، وهو نظام قبلي للصلح لا يصلح أساساً لفض منازعات ذات خلفية سياسية، وتطبيق مخرجات مؤتمر “سنكات” (الذي كان قد عقده المجلس الأعلى لنظارات البجا قبل أشهر) وهي مخرجات لا تعكس أي طبيعة سياسية معقولة، ما يعني بالضرورة إنتاجاً لأزمات جديدة.
محاولات مقاومة حراك “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، تمثلت في مؤتمر آخر موازٍ نظمه داعمو مسار شرق السودان من قبائله، لكن المفارقة هنا أن قادة المسار لم يحضروا هذا المؤتمر خشية اتهامهم بالاصطفاف القبلي، إلى جانب ما قد يمكن أن يحاك لهم من تدابير قد تعيق جهودهم.
وإزاء انسداد كهذا في البنية السياسية للحراك في شرق الإقليم، سنجد أن الأحزاب السياسية في الشرق أكثر عجزاً عن مقاومة طبيعة ذلك الحراك الذي تنشط فيه القبائل، ما يعني أن القدرات المحدودة للأحزاب السياسية المنهكة لا يمكن أن تفعل فعلاً إيجابياً موازياً لقطع الطريق على مسار الأزمة.
ما العمل؟
نتصور أنه في غياب أي حراك سياسي لقطع الطريق على هذه الأجسام القبائلية المسيّسة مثل “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، خصوصاً من مثقفي وسياسيي أبناء البجا (بشقيهم) سيكون من العسير أي فرصة لإمكانية انتزاع المجال العام من تلك الكيانات، لا سيما أن أبناء ومثقفي “البداويت” على وجه الخصوص هم اليوم الأكثر تخاذلاً أمام مواجهة الحراك السياسوي الذي يقوده المجلس، وما لم يكن هناك جسم سياسي أو حركة لأبناء “البداويت” ونخبهم ومثقفيهم تسعى إلى انتزاع المجال السياسي من هذا المجلس، وتستقطب جماهير المجال العام من أبناء البجا عبر مشروع سياسي وطني للحراك، فإن تعقيدات الوضع السياسي في شرق السودان ستزداد تفاقماً، بل من الغريب أنه حتى في داخل إطار قبائل “البداويت” المصطفة مع تيار مسار الشرق، لا نكاد نرى حراكاً ملموساً وواضحاً ضد حراك المجلس.
كما أن هناك كياناً لبعض أبناء البجا الناطقين بـ”التقراييت” أي “بنو عامر والحباب”، سمّوه بـ”التحالف الثوري لشرق السودان”، وبدا فيه بعد واضح عن القبائلية، ولكن لطبيعة الواقع الذي شهده الإقليم من تدمير للبنية السياسية على مدى 30 سنة، واستبدالها ببنية قبائلية مسيّسة، ولطبيعة الاحتقان القبلي الذي شهده، بدا هذا الجسم كما لو أنه خاص بقبائل معينة، وعلى الرغم من أن هذا الجسم “التحالف الثوري لشرق السودان” لا يزال غير واضحٍ في طبيعته الهيكلية، وما إذا كان حزباً سياسياً أو جبهة سياسية، أو غير ذلك من الأجسام السياسية.
لجان المقاومة
وفي اعتقادنا أن الجهة الأقدر على انتزاع المجال العام للاستقطاب القبائلي في ممارسة السياسة في شرق السودان، هي لجان المقاومة الثورية، التي للأسف انكمش دورها في الفترة السابقة نتيجة للاقتتال الأهلي ذي الطابع القبلي الذي تم في معظم مدن المنطقة ونتيجة لطبيعة العصبية القبائلية فيها، لكن على الرغم من ذلك، نرى أن دور لجان المقاومة ينبغي أن يكون الدور الأكبر في الحراك الثوري بالإقليم والوقوف ضد كل الأجسام القبائلية والعنصرية التي لا يمكن بطبيعتها تلك أن تعكس دوراً سياسياً إيجابياً للحراك فيه.
كما نعتقد أن هناك عناوين أساسية يمكن أن تنشط فيها لجان المقاومة متحدة ومشتركة بين كل مكونات شرق السودان، مثل السعي إلى إقالة اللجنة الأمنية في كل من ولايتي كسلا والبحر الأحمر لأن جميع المراقبين يدركون طبيعة الأدوار السيئة التي لعبتها اللجنة الأمنية في البحر الأحمر، حيث اندلعت، خمس مرات، حالات اقتتال أهلي من دون أن تكون هناك محاكمات أو عقوبات أو حتى إقالات لرؤساء اللجنة الأمنية كافة، على الرغم من وجود والٍ للبحر الأحمر يفترض به أن يطبق برنامج الثورة التي من أهم استحقاقاتها، إقالة قادة اللجنة الأمنية الذين حدثت موجات الاقتتال الأهلي، خمس مرات، في البحر الأحمر في ظل إدارتهم الملف الأمني للولاية، ولكن ذلك لم يحدث للأسف.
هذه المعطيات والمؤشرات التي ذكرناها آنفاً بخصوص العوامل التي تجعل من شرق السودان كعب أخيل الثورة السودانية، لا بد من أن تجد لها حلولاً من الذين يعنيهم انتصار الثورة في الإقليم، لا سيما الحكومة في الخرطوم، التي لا نعرف حتى الآن الأسباب التي لا تستدعي منها اتخاذ قرارات بإقالة رؤساء اللجنة الأمنية في كل من ولايتي كسلا والبحر الأحمر!؟
وأخشى ما نخشاه هو أن يكون شرق السودان جزءًا من أدوات تصفية الصراع بين الشق المدني والشق العسكري في سلطتي المرحلة الانتقالية: مجلس الوزراء ومجلس السيادة، كما تدل على ذلك معطيات كثيرة.
إن اللعب على ملف شرق السودان، وفق ألعاب تصفية الحسابات بين فرقاء المرحلة الانتقالية في الخرطوم على طريقة لعبة البيضة والحجر، يمثل خطراً كبيراً على هذا الشرق، وخطورة مثل هذا اللعب يمكن أن نعرف آثارها الكارثية، إذا أدركنا حساسية الطبيعة الجيوسياسية للإقليم والبنية الاجتماعية الهشة والمتخلفة لمكوناته، إلى جانب التداعيات الخطيرة التي كانت متوقعة للحرب الأهلية الإثيوبية، والتي نشهد اليوم طرفاً من تداعياتها في منطقة الحدود بين السودان وإثيوبيا في ولاية القضارف، شرق السودان، وما يمكن أن ينتج من التوتر الخطير بين البلدين في المنطقة.