بقلم: علي الصراف – العرب اللندنية
الشرق اليوم- لم يمض شهر واحد، حتى قام قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني بزيارتين إلى العراق. الأولى لدفع عصاباته لشنّ هجمات ضد الوجود الأميركي في العراق، بمناسبة الذكرى الأولى لمقتل سلفه قاسم سليماني. والثانية لكي يوصل إلى رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي رسالة مفادها أن القيادة الإيرانية ترفض عمليات قصف البعثات الدبلوماسية التي تقوم بها جهات “خارجة عن القانون”.
يبدو الأمر وكأنه ينطوي على تناقض. ولكن ليس لمن يمكنه أن يفهم العقلية الإيرانية.
بالهجمات ضد محيط السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء، وبالقول إن القيادة الإيرانية ترفض هذه الهجمات، فإن الرسالة واحدة في الحقيقة. إنها تقول “نحن وإن كنا نستطيع توجيه ضربات للوجود الأميركي في العراق، إلا أننا نريد أن نعطي الإدارة الأميركية الجديدة فرصة للحوار”.
الكل يعرف، بما في ذلك القوات الأميركية في العراق، أن الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني، لا تتصرف من دون توجيه. وهي تتبع أوامر قاآني بالشيء وعكسه في آن واحد. أو على الأقل، فبينما يقوم بعضها بشن هجمات، يقوم البعض الآخر بالتنديد بها، والتبرؤ منها.
هذه اللعبة تكررت أكثر من مرة، حتى أصبحت سمجة. فبعد جولة من الهجمات السابقة، ضد مقرات البعثات الدبلوماسية الأجنبية في المنطقة الخضراء، أعلنت الميليشيات التابعة لإيران اتفاقا مع حكومة الكاظمي على التهدئة في أكتوبر الماضي، وبدا قاآني وكأنه هو الذي أقنع ميليشياته بهذه التهدئة، رغم أنه كان هو نفسه من أصدر الأوامر بتنفيذ تلك الهجمات.
وبينما يتلقى كل أطراف “البيت الشيعي” التوجيهات من طهران، فإنها تقسمهم إلى قسمين، يلعب الأول دور السلطة، فيما يلعب الثاني دور المعارضة. الأول ينهب ويفسد ويقتل، والثاني يندد، حتى يأتي دوره، لينهب ويُفسد ويقتل، ليعود الأول ليندد، وهكذا.
المشكلة لا تمكن هنا، على أيّ حال. إنها تكمن في من يخضعون للعبة، ويختارون الجزء الذي يناسبهم منها.
تحسب إيران أنها بهذه اللعبة تستطيع أن تخدع العالم. ولكنها لا تخدع أحدا إلا نفسها. وبينما تمارسها على أساس اقتناع بأنها شيء عبقري، فإنها في الواقع شيء غبيّ. ولكن ليس لأن الأدلة والقرائن واضحة فحسب، بل لأن إيران لا تملك الكثير مما يغنيها عن التصرف على هذا النحو.
إنها تريد أن تدخل في حوار مع الإدارة الأميركية الجديدة. ولو أنها لم تقم بتلك الأعمال السّمجة لقول الشيء وعكسه، فإنها لا تعرف ما هو السبيل لبدء الحوار المنشود. وهي تتحرش لأنها تخشى أن تتعرّض للإهمال، وتريد أن تنشئ وضعا يسمح لها بأن تعرض شيئا لعلها تأخذ آخر. ولو جرّب الرئيس بايدن أن يتجاهل إيران لمدة شهرين، بعد توليه الرئاسة، فإن قآاني سيأتي إلى العراق لكي يحرّض عصاباته على شن هجمات، ثم يعود ليقول إن قيادته ترفض تلك الأعمال “الخارجة عن القانون”. لكي يوصل الرسالة نفسها: نحن نستطيع أن نضرب، ولكننا نريد الحوار.
مصالح الولايات المتحدة في العراق يفترض أن تكون محمية، بموجب اتفاق سابق مع إيران تمّ توقيعه من قبل الحكومة التابعة لها في بغداد في العام 2008. وبالرغم من أنها أصبحت تهدد هذه المصالح، فإن إيران تريد أن تقول إنها ما تزال قادرة على حمايتها. لتقول بمعنى آخر، إنها ترغب بأن تكون شرطي واشنطن في هذا البلد. كما ترغب، على غراره، أن تكون شرطيا لها في المنطقة.
ولكن ذلك يتطلب أن تكون هناك حاجة لشرطي أصلا. وحتى لو توفرت الحاجة، فان شرطيا يقود عصابات “خارجين عن القانون” هو آخر من يمكن الثقة به. لم تنتبه إيران إلى هذه المفارقة، فوقعت في فخ ما فعلت.
المسؤولون الإيرانيون يحتاجون أولئك الخارجين عن القانون، لأنهم أقرب إلى الحمير منهم إلى البشر. فالعراق بلد كان بوسعهم أن يجعلوا استقراره وازدهاره وتقدمه، نموذجا لدورهم في المنطقة. إلا أنهم استعانوا بمجرمين وفاسدين وأفاقين ورعاع، من شاكلتهم، لكي يدمروه بدوافع الحقد، وبمشروع طائفي مريض لا يملكون غيره. حتى انتهوا إلى أنهم صاروا يتخبطون بما أفسدوا، ويتصرفون بحماقة حيال الولايات المتحدة تحت وطأة ما يعانونه من عقوبات. إذ لا ضرب محيط السفارة الأميركية يخيف الولايات المتحدة، ولا الحوار سيأتي تحت تأثير هذا النوع من الأعمال الصبيانية.
هناك اعتبارات أخرى هي التي يتعين على الرئيس بايدن أن يأخذها بعين الاعتبار. والخوف ليس واحدا منها.
كل ما تسعى إليه طهران هو أن يتم تخفيف العقوبات عنها، ولو بأيّ مقدار، لكي تخرج من دائرة الإفلاس الراهن. إلا أنه يتعين عليها أن تدفع الثمن. وما لم تكن قادرة بالفعل على دفعه، فإن الدائرة ستظل مغلقة.
هذا الثمن هو جوهر أيّ مفاوضات مع إدارة بايدن. وهو شيء لا يتأثر بما يفعله غلمان قاآني أو بما يقوله هو نفسه. وسواء كانوا “محور مقاومة” أو مجموعات “خارجة عن القانون”، فإنهم الشيء نفسه بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
وأول الثمن هو التفتيش في كل أرجاء إيران بحثا عن برنامج نووي سري. وثانيه تدمير كل ما تم استخدامه من أجهزة تخصيب تخرج عمّا أقره الاتفاق النووي لعام 2015. وثالثه الحد من البرنامج الصاروخي الإيراني وإخضاعه للمراقبة، بل وتدمير كل ما يشكل تهديدا عابرا للقارات منه.
هذا هو المستوى الأول للثمن. أما المستوى الثاني فهو يتعلق بالنشاطات المزعزعة للاستقرار في المنطقة. ومن جملة ذلك، تهديدات غلمان الحرس الثوري في العراق، ووجود القوات الإيرانية في سوريا، وأعمال تخريب الدولة التي يمارسها حزب الله في لبنان، والقضايا المتعلقة بأمن الملاحة في الخليج العربي، وأخيرا وقف الحرب في اليمن.
أما المستوى الثالث فهو وقف الاعتقالات التعسّفية ضد مواطنين غربيين في إيران على سبيل الابتزاز. ووقف الجرائم التي تمارسها السلطات الإيرانية ضد حقوق الإنسان، والتخلي عن أعمال الإرهاب التي تمارسها إيران في الخارج.
الاتفاق النووي السابق لم يشمل كل هذه القضايا، ولكن ليس لأن إيران نجحت في استغباء إدارة الرئيس باراك أوباما، بل لأن هذه الإدارة كانت راغبة بأن تستغبي نفسها، في إطار مقايضة قصدت تخفيف كلفة البقاء في العراق، ولكسب عقود تجارة لشفط ما كان لدى إيران من أموال في المصارف الغربية. ولقد نضب كل ما بقي من تلك المقايضة.
هل يمكن لأيّ مفاوضات جديدة مع الولايات المتحدة أن تتجاهل دفع الثمن المطلوب لتخفيف العقوبات؟ فإذا كان الجواب هو لا، فأين يمكن أن توضع حماقات غلمان قاآني في العراق؟ وما الذي ستعنيه لو أنها تكررت؟
سوف تعود الولايات المتحدة لتطلب الثمن نفسه مجددا.