بقلم: ماجد كيالي – العرب اللندنية
الشرق اليوم- باتت منطقة المشرق العربي من أكثر مناطق الاضطراب، أو التصدع، الدولتي والمجتمعي، في العالم، علما أنها من أكثر المناطق أهمية للعلاقات والاستراتيجيات الدولية والإقليمية، من النواحي الجغرافية والاقتصادية والأمنية والسياسية، أيضا. فتلك المنطقة التي تضم ما يعرف بمنطقة بلاد الشام وما بين النهرين، ومصر والسودان والجزيرة العربية، تعتبر بمثابة المفاعل السياسي، أو بمثابة المركز، للتطورات والتحولات في العالم العربي، وهي الملتقى، والجسر، الذي يربط القارات الثلاث القديمة (آسيا وأوروبا وأفريقيا)، وفي هذه المنطقة منابع النفط، ومواطن الرسالات السماوية الثلاث.
ومعضلة المشرق العربي، في هذه المرحلة، هي، أولا، في أنه يواجه قوى إقليمية ودولية عديدة تتصارع من أجل السيطرة عليه، والتحكم بالتطورات الجارية فيه، من دون أن تكون له هيكلية، أو ماهية، أو ذات واضحة ومتمثلة في دولة أو في نظام إقليمي.
هذا مع العلم أننا إزاء نظام عربي، هو أقرب إلى نظام افتراضي، لافتقاده للوحدة والفاعلية التي تضاهي الفاعلين الإقليميين والدوليين الآخرين، لاسيما أن المنازعات، بدلا من علاقات التكامل والتعاضد، باتت تحكم العلاقة بين الوحدات المشكّلة له.
الصراعات في العراق، بسبب المداخلات الإيرانية والتوظيفات الأميركية، باتت تتخذ طابعا مذهبيا، وإثنيا، وهي تكاد تمتد لتعم المشرق العربي
هكذا، يواجه المشرق العربي على الصعيد الإقليمي، مثلا، ثلاث قوى صاعدة، فثمة إيران بقوتها النفطية والعسكرية (وضمنها احتمال امتلاكها قوة نووية)، تسعى لتعزيز دورها الإقليمي، عبر تصدير “ثورتها” إلى محيطها، بالاستناد إلى بعد ديني ومذهبي، وحامل طائفي، وبتوظيف واضح للصراع العربي ـ الإسرائيلي وللعداء للسياسة الأميركية في المنطقة. في مقابل ذلك تتقدم تركيا بهدوء أحيانا، وبشكل صاخب أحيانا أخرى، أي بالقوة الناعمة وبالقوة الخشنة (العسكرية أيضا) لتعزيز وضعها الإقليمي، بثقلها التاريخي، وقدراتها الاقتصادية، ونمط نظامها الديمقراطي/الإسلامي، والمنفتح على الغرب، أو المنازع له.
أيضا، ثمة إسرائيل، التي تحاول فرض ذاتها كلاعب، أو كفاعل إقليمي في المنطقة، لاسيما أنها تحمل في وجودها وجها دوليا، أيضا؛ بحكم علاقاتها المتميزة بالغرب وبالولايات المتحدة الأميركية تحديدا. وما يميز إسرائيل أنها على خلاف الطرفين الآخرين، أي إيران وتركيا، تتمتع بعلاقات ممتازة ومتميزة مع كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا (وأوروبا)، في حين يفتقد ذلك الطرفان الآخران.
أما على الصعيد الدولي، فثمة الولايات المتحدة التي ترى في وجودها في هذه المنطقة، ضمانة لاستمرار هيمنتها على النظام الدولي، بين ضمانات أخرى عسكرية واقتصادية وتكنولوجية. أما أوروبا فترى في هذه المنطقة (مع شمالي أفريقيا) نوعا من الامتداد التاريخي والحضاري والجيوسياسي الطبيعي لها. وخاصة أنها تتأثر مباشرة جراء التطورات والاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية في هذه المنطقة، بحكم الجوار الجغرافي، وبحكم انتقال موجات الهجرة من المشرق العربي (مع شمالي أفريقيا) إليها.
وطبعا هناك روسيا، وهي مشروع إمبراطورية تسعى لاستعادة نفوذ سبق أن خسرته، في مرحلة سابقة، لأسباب أيديولوجية (في زمن الشيوعية)، وبسبب خسارتها المنافسة في السباق الدولي مع الولايات المتحدة، وهي لذلك تسعى جاهدة، بالاعتماد على قوتها العسكرية، لمنافسة النفوذ الأميركي في أكثر من مجال، وبأكثر من طريقة.
واضح من كل ذلك أن معطيات تلك المنطقة وتشابكاتها جدّ معقدة ومتداخلة، ولا يمكن فيها الحديث عن سياسة محلية من دون بعد إقليمي، كما لا يمكن الحديث عن هكذا بعد، أيضا، من دون مداخلات دولية.
المعضلة الثانية، التي تواجه هذه المنطقة هي أن الصراعات والتنافسات السياسية، الداخلية والخارجية، لا تحلّ، على الأغلب، بالوسائل الدبلوماسية، والسلمية فيها، والديمقراطية، وإنما بطرق القوة والعنف والوسائل العسكرية. هكذا، مثلا، فإن إسرائيل تبحث عن حلّ أمني (عسكري) لصراعها مع الفلسطينيين، وفي عموم المنطقة، يتأسّس على التسليم وليس على السلام، وعلى الغلبة والهيمنة وليس على التكافؤ والمساواة، وعلى الردع والقوة وليس على العدل والتوافق.
وبذلك باتت المشكلة بالنسبة إلى إسرائيل ليست الاستيطان والعدوان والاحتلال، وإنما تخلي الفلسطينيين عن العنف وإعادة تأهيلهم لإدارة أوضاعهم. وهذا ما يمكن سحبه على الجبهات الأخرى، في التدخلات العسكرية الإيرانية والتركية لاسيما في سوريا والعراق. وفي هذا أيضاً قامت الولايات المتحدة بغزو العراق واحتلاله سنة 2003.
أما على صعيد الخلافات والصراعات الداخلية فالقوة هي الأساس، إن في تعامل الأنظمة مع القوى المعارضة (على ضعفها)، أو بالنسبة إلى حل القضايا الخلافية الداخلية (حالة حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان والوضع
في السودان والصومال واليمن وليبيا).
المعضلة الثالثة التي تواجه المشرق العربي تنبثق من واقع أن الصراعات في هذه المنطقة سرعان ما تتخذ طابعاً دينياً وطائفياً وإثنيا ومذهبياً، بسبب ضعف الاندماج المجتمعي، وضعف تكون الدولة ـ الأمة، أو دولة المواطنين، في هذه المنطقة الفسيفسائية. وفي هذا السياق، فهذه إسرائيل تؤسس وجودها في المشرق العربي على فرادتها كدولة يهودية. وثمة تنام ملحوظ لتيارات الإسلام السياسي الحركي، المعطوفة على العنف. ونفوذ إيران إلى تصاعد مستمر، بسبب من توظيفها لعدائها مع إسرائيل والسياسات الأميركية. وثمة حركتان إسلاميتان باتتا تتصدران الصراع ضد إسرائيل (حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين).
المشرق العربي يواجه في هذه المرحلة قوى إقليمية ودولية عديدة تتصارع من أجل السيطرة عليه، والتحكم بالتطورات الجارية فيه، من دون أن تكون له هيكلية
وبدورها فإن الصراعات في العراق، بسبب المداخلات الإيرانية والتوظيفات الأميركية، باتت تتخذ طابعا مذهبيا، وإثنيا، وهي تكاد تمتد لتعم المشرق العربي، ما يهدد الدول العربية، على ضعفها. وقد شهدنا كيف تم تحويل الصراع في سوريا إلى نوع من صراع طائفي، أو حرب أهلية، في حين كانت في البدايات بمثابة ثورة ضد نظام العائلة الحاكم منذ نصف قرن.
المعضلة الرابعة، تتمثل في أن العامل الخارجي بات بمثابة عامل داخلي في الصراعات المذكورة، في العراق وسوريا واليمن وليبيا، وهو يتركز في السياسة التي تنتهجها الإدارة الأميركية، التي هي الفاعل الأكبر في المشرق العربي، إلا أن هذه ليست في وارد إصلاح الأوضاع في المنطقة، على رغم اللغو الأميركي الكثير في هذا المجال.
ومن ذلك يمكن الاستنتاج بأن منطقة المشرق العربي، وبسبب هشاشة النظام العربي، وضعف المجتمعات العربية، تمر بمرحلة انتقالية، وبتحولات نوعية، صعبة ومعقدة، لا أحد يمكنه التكهن بمآلاتها. وعلى ذلك، فإذا استمر الحال على ما هو عليه، يخشى أن هذه المنطقة لا تسير باتجاه إعادة التشكيل والاندماج، المجتمعي والدولتي، وإنما نحو المزيد من التفكك والتشقق وربما التصدّع، وهذا ما ينبغي الانتباه له، وتاليا العمل على تخفيف مخاطره وتجاوزه.