بقلم: توماس فريدمان – صحيفة “الاتحاد”
الشرق اليوم – كنت أتحدث مؤخراً مع مات دون، مؤسس “مركز الابتكار الريفي”، الذي يروّج للتنمية الاقتصادية الرقمية في البلدات الصغيرة بالولايات المتحدة الأميركية، فأخبرني عن منطقة بولاية فيرمونت بالقرب من منزله توجد فيها مكتبة عامة كبيرة: “يمكنك أن تأتي إليها بمركبتك في أي يوم أحد وستجد موقف السيارات مليئاً عن آخره”، مضيفاً “هناك مشكلة واحدة فقط: أن المكتبة تغلق أيام الأحد”.
موقف السيارات كان مليئاً بسيارات فيها أطفال ينجزون واجباتهم المنزلية، وكبار يقومون بأعمالهم المكتبية مستخدمين الاتصال اللاسلكي بشبكة الإنترنت المتسربة من المبنى الفارغ لأن منازلهم الريفية تفتقر إلى النطاق العريض عالي السرعة. وللأسف، هناك قصص كثيرة عن أميركيين ريفيين يذهبون إلى متاجر “صابواي” ومطاعم “ديري كْوين” بحثا عن شبكة “واي-فاي” مجانية. ولهذا أريدُ أن أتحدث اليوم عن نائبة الرئيس المنتخبة كامالا هاريس.
الواقع أن هاريس أكثر ذكاء وحماساً من أن تكون مجرد نائبة للرئيس، وهو منصب له مسؤوليات رسمية قليلة. ولهذا، أودُّ أن أرى الرئيس المنتخَب جو بايدن يقلدها منصباً أهم بكثير: وزيرة للتنمية الريفية بحكم الواقع، مكلفة بسد هوة الفرص، وهوة الاتصال بشبكة الإنترنت، وهوة التعلم، وهوة الشركات الناشئة – وهوة الغضب والتهميش – التي تفصل بين أميركا الريفية وبقية البلاد.
الرئيس دونالد ترامب استغل تلك الهوات ووظّفها كثيرا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة والتي قبلها للتغلب على الديمقراطيين في أميركا الريفية. ولهذا، فإن تكليف هاريس بمعالجتها سيشكّل موقفا حقيقيا من قبل فريق بايدن.
كما سيوفّر رؤية للتجديد الأميركي ويؤشّر إلى أن “الديمقراطيين” لن يتخلوا عن أميركا الريفية لـ”الجمهوريين” بعد اليوم، وإنما سينتزعونها منهم. وسيجعل هاريس نائبة للرئيس بمهمة منذ اليوم الأول.
والواقع أن على الديمقراطيين ألا يخدعوا أنفسهم. فبايدن فاز بهذه الانتخابات عبر الفوز بالضواحي والمراكز الحضرية بهامش ضيق في الولايات المهمة المتنافس عليها، حيث قرر عدد كاف من الناخبين هناك أنهم يريدون إخراج ترامب من البيت الأبيض، وليس وقف تمويل الشرطة.
وهذا يعني أن الكثير من الناخبين من سكان الضواحي رفضوا ترامب شخصياً ولكنهم رفضوا أيضاً الأفكار الديمقراطية المستمدة من أقصى اليسار التي طفت على السطح خلال السنوات القليلة الماضية. فـ”الديمقراطيون” فازوا بالرئاسة ولكنهم عوقبوا من قبل أولئك الناخبين أنفسهم في العديد من انتخابات مجلس نواب الولايات، ومجلس النواب الأميركي، ومجلس الشيوخ الأميركي.
وإذا ذهب الديمقراطيون إلى انتخابات 2022 – ناهيك عن انتخابات 2024 – معولين على المدن والضواحي فقط، فسيكونون مجانين لأنهم سيكونون في وضع هش إذا قاد الحزبَ الجمهوري شعبويٌّ أذكى وأقل صِدامية من دونالد ترامب.
والأهم من ذلك كله هو أن انتشال أميركا الريفية ورفعها هو الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله لكل الولايات المتحدة، ولإنجاز رؤية بايدن لدولة تنمو معاً في كل المناحي.
هذه الفكرة تظل سمة أصيلة في الحزب الديمقراطي، الذي ما زال يُعرف في الولاية التي انحدر منها، مينيسوتا، بـ”حزب العمال المزارعين الديمقراطيين”. ولهذا، يحتاج الحزب لإعادة تشكيل ذاك الائتلاف. “إحدى الطرق للقيام بذلك تكمن في إعادة الاتصال بجذوره الشعبوية، عندما كان حقاً حزباً يركز على نصرة قضايا العمال والمزارعين والمواطنين العاديين”، يقول مايكل ساندل، الأستاذ بجامعة “هارفارد”، مضيفاً: “ينبغي على الديمقراطيين أن يقدّموا بديلا لشعبوية ترامب البلوتوقراطية والمعادية للأجانب عبر إظهار أن الشعبوية يمكن أن تكون مصدرا للنضال المدني والالتزام والتجدد عبر أميركا الريفية والحضرية”.
وتلك ينبغي أن تكون مهمة هاريس، وهي مهمة جديرة بنائبة رئيس، وتبدأ من أميركا الريفية.
بيث فورد، رئيسة “لاند أوليكس”، التعاونية النافذة التي يملكها مزارعون ويوجد مقرها في مينيسوتا، قالت لي: إنني أخشى أن كلمة “ريفية” تنطوي على معنى: جغرافية ليست مشكلتي. والحال أن نشر الاتصال بشبكة الإنترنت والتكنولوجيا في أميركا الريفية هو “مشكلة أميركية، ومشكلة تنافسية أميركية، ومشكلة أمن وطني أميركي”.
وتقول فورد: إن “نقص الاستثمار في أميركا الريفية سيجعلنا أقل أمنا وأقل رخاء كأمة” – وأقل تنافسية مع الصين، التي تعمل على الربط السريع لمناطقها الريفية بالإنترنت، مضيفة أن “نحو 35 في المائة من المزارعين يفتقرون لنطاق عريض كاف لتشغيل المعدات في مزارعهم، وضمان حصول أطفالهم على تعليم جيد، وقدرة الجدة على الوصول إلى الطب عن بعد”.
هاريس ستصبح قريباً أول امرأة وأول سوداء، وأول أميركية هندية، تتولى منصب نائبة الرئيس، وهو ما سيترك صدى بكل تأكيد لدى كثير من الناخبين في المدن. غير أنها إذا استطاعت أن تجعل من نفسها شخصاً في حكومة بايدن الذي يحضر دائما أولاً من أجل الاستماع في أميركا الريفية، والأول الذي يقدّر همومها، والأول الذي يحرص على معالجة مشاكلها، فإنها والديمقراطيين يستطيعون أن يجعلوا أنفسهم تنافسيين في مقاطعات ريفية أكثر بكثير.
وحتى إن كانت أكثر تنافسية بـ10 أو 15 في المئة فقط، فإن ذلك قد يكون كافياً لحرمان الحزب الجمهوري، الذي انحرف عن سكته تحت قيادة ترامب من السيطرة على البيت الأبيض أو مجلس النواب من جديد خلال السنوات الأربع المقبلة – وربما إرغامه على العودة إلى رشده. فالحزب الجمهوري يحتاج لعلاج بالصدمة، ولا شيء يمكن أن يصدم هذا الحزب الجمهوري أكثر من خسارة سيطرته الأوتوماتيكية على أميركا الريفية.