بقلم: عبد المنعم سعيد – المصري اليوم
الشرق اليوم – هذه المرة لم تكن أسابيع إدارة “البطة العرجاء”، كما عرفتها الولايات المتحدة تاريخيا، على حالها المعهود من مراسم التسليم والتسلم بين إدارتين إحداهما ذاهبة بقدر كبير من الاسترخاء، خاصة إذا ما كانت قد مضى لها فترتان في السلطة، والأخرى القادمة باستبشار كبير لهذا المستقبل الواعد القادم الذي سيكون عليها أخذ أمريكا كلها إليه، أما الكون كله فسيكون سعيدا تماما بالقيادة الأمريكية.
لم يكن الحال في انتقال السلطة منذ إدارات جيرالد فورد وجيمي كارتر، وهذا الأخير ودونالد ريجان، وبالطبع إلى الإدارة الجمهورية الأخرى بين هذا ونائبه جورج بوش الأب، فانتقلت السلطة من قاعة في البيت الجمهوري إلى قاعة أخرى في ذات المنزل. ولم يختلف الأمر عندما انتقلت السلطة بين الجمهوريين إلى الديمقراطيين تحت قيادة بيل كلينتون، ثم من هذا إلى جورج بوش الابن، الذى سلمها كاملة إلى باراك أوباما، ومن هذا إلى دونالد ترامب. كان التقليد يبدأ ليلة الانتخابات ذاتها حتى ولو طال الفرز، فبمجرد حسم النتيجة إعلاميا فإن المكالمة التليفونية تأتي بالتهنئة من الخصم المهزوم، وبالتقدير من المنافس الفائز بأن منافسه قدم الكثير للخدمة العامة. كانت هناك طقوس اللقاء في البيت الأبيض مع المصافحة التقليدية التي تظل صورتها خالدة في ملفات التاريخ. ولكن الأمر لا ينتهى بلحظة المصافحة هذه، وإنما يأتي معها وعد وتنفيذ بأن يكون انتقال السلطة ناعما للغاية، وتبدأ الأجهزة في البيت الأبيض والمؤسسات الأخرى في فتح ملفاتها للقادم الجديد بينما يلوذ الذاهب القديم بالصمت الذي يملؤه الرئيس المنتخب بالآمال والتصريحات. أي من هذا لم يحدث، فالأسابيع كلها ذهبت ولم يكن هناك لا لقاء ولا سماح، وإنما حرب قضائية ضروس للتشكيك في النتيجة وصولا إلى محاكم فيدرالية وحتى المحكمة الدستورية العليا. لم ينجح ترامب في شيء، ولم يجد هناك بد من هجومه على المحاكم، مع طرد المدعى العام ويليام بار، ولوم أعضاء المحكمة العليا الذين تصور الرئيس أن يكون ولاؤهم لمن قام بتعيينهم وليس للقسم الذي أدوه باحترام ورعاية الدستور.
حتى وقت كتابة هذه السطور بعد أن قال المجمع الانتخابي كلمته المؤكدة على نتيجة فوز جو بايدن الذي أعلن أنه آن أوان طي الصفحة الماضية وفتح صفحة جديدة، فإن صفحات العداء ظلت على حالها. ترامب استمر في الإطاحة بمن يريد، وتعيين من يريد، ولم يجد غضاضة في استمرار سياساته الداخلية والخارجية على عكس التقليد المعهود، وكان نصيب منطقتنا منها الإعلان عن استئناف السلام والتطبيع بين المغرب وإسرائيل.
ظل ترامب مصمما على أن الانتخابات جرى تزويرها، حتى ولو كانت خطوات نقل السلطة تمضي على قدم وساق رسميا على الأقل. النخبة الجمهورية في مجلس النواب والشيوخ وحكم الولايات بدأت تطلق على بايدن لقب “الرئيس المنتخب”، معترفة بأن القضية كلها حسمت.
ترامب على الجانب الآخر ظل مصمما على أنه سوف يخرج من البيت الأبيض كما خرج الرئيس جون آدامز- الرئيس الثان للولايات المتحدة بعد جورج واشنطن والذي خرج بعد فترة رئاسية واحدة- غاضبا وناقما على منافسه توماس جيفرسون حيث مضى إلى بلدته بوسطن في ولاية ماشوستس دون مصافحة أو وداع. كانت الولايات المتحدة وقتها ثلاث عشرة ولاية وعدد سكانها لا يتجاوز كثيرا ثلاثة ملايين نسمة، ودولة بعيدة كثيرا عبر المحيط الأطلنطي وعن العالم القديم. الآن صارت الدولة خمسين ولاية، وعدد سكانها ٣٣٠ مليونا، وقائدة للعالم القديم والجديد أيضا أو هكذا كانت حتى أصابها وباء الكورونا ودونالد ترامب.
ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة فإن مستقبلها مع الرئيس الجديد لا يصير هو القضية والموضوع؛ وإنما إشارات غامضة متشائمة عن الانقسام الهائل والشديد بين الأمريكيين. لم تكن القضية أن ٨٢ مليونا انتخبوا بايدن، وإنما بعد العلم بكل شيء عن الرئيس الذاهب ومواقفه من النساء والأقليات والعالم فإن ٧٦ مليونا انتخبوه؛ وهؤلاء مشتعلون بالغضب والأخطر مستعدون للعنف. في ١٤ ديسمبر نشرت “الواشنطن بوست” مقالا متشائما تصف فيه أمريكا بأنها “مكان مظلم فارغ” يواجه فيه المسؤولون العامون تهديدات شخصية مع اشتعال التوترات. وفي مقال رأى آخر تساءلت جنيفر روبين “كيف نحاسب خونة الديمقراطية؟”، أي هؤلاء الجمهوريين الذين لم يقدروا القاعدة القانونية والدستورية للدولة الأمريكية. والحقيقة أنه لا يمكن الجزم بأن الدولة الأمريكية سوف تنفجر نتيجة الانقسام والتوترات الداخلية؛ ولكن ما يمكن التأكيد عليه هو أن ترامب لم يكن ظاهرة عارضة في التاريخ الأمريكي، ولن يكون كذلك خلال السنوات الأربع المقبلة.