بقلم: طلال صالح بنان – صحيفة “عكاظ” السعودية
الشرق اليوم – حتى نفهم نظام الانتخابات الأمريكية، والنظام السياسي الأمريكي، ممارسةً وقيماً، بوجه عام، علينا أن نرجع إلى الخلفية الفلسفية للنظرية الليبرالية، في إطار تطور النظرية السياسية، بصفة عامة. الأساس النظري للديمقراطية الحديثة، نجده في أدبيات الفكر السياسي الإغريقي، خاصة عند أرسطو (384 – 322 ق. م).
لكن التطور الحقيقي للنظرية السياسية، حدث بدءاً من عصر النهضة، بالذات، عند فلاسفة العقد الاجتماعي. ظهر الفكر الليبرالي، ليؤسس شرعية العروش في أوروبا على الإرادة العامة للناس، لا على الحق الإلهي. بذا انقلب هرم السلطة في المجتمع، بعد أن كان الشعب موضوعها، أصبح الشعب صاحب السيادة فيها. وبعد أن كانت السلطة “مقدسة” أصبحت مسؤولة، تحدد الإرادة العامة مصير مؤسساتها ورموزها.
قد يكون الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588 – 1679) هو رائد الليبرالية الحديثة، بخلفيتها الفردية، في إحداث الانقلاب الجذري في أساس الشرعية السياسية. إلا أن قيم وحركة الديمقراطية الحديثة، تجد جذورها الليبرالية، في فكر مواطنه جون لوك (1632 – 1704)، لتطويره فكرة الديمقراطية النيابية.. وجان جاك روسو، فيلسوف الثورة الفرنسية (1712 – 1788)، لتأصيله مبدأ الإرادة العامة، كما تتجلى في اختيار وتوجه الأغلبية.
من هنا يظهر تأثر الممارسة الديمقراطية الأمريكية بفكر روسو، أكثر منه بفكر لوك. الثقل السياسي الحقيقي في النظام السياسي الأمريكي، يتمثل في المحليات، إلى مستوى المقاطعات والبلديات والمراكز، منه إلى مستوى الدولة، بصفة عامة، ربما نتيجة الأخذ بالنظام الاتحادي الفيدرالي، بدلاً من صيغة الدولة الموحدة.
من هنا يأتي نظام المجمع الانتخابي، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. هذا المجمع الانتخابي هو صورة طبق الأصل من تقسيمات الكونجرس التشريعية، الممثلة في مجلس النواب، بالإضافة إلى تمثيل الولايات في مجلس الشيوخ، بمعدل شيخين اثنين لكل ولاية. أي أن الكونجرس بمجلسيه 535 مقعدًا، تعدل في مجموعها عدد أعضاء المجمع الانتخابي بالإضافة إلى ثلاثة يمثلون العاصمة واشنطن، التي ليس لها مقاعد تشريعية في الكونجرس.
من هنا مؤسسة الرئاسة، تتساوى من حيث الثقل السياسي مع الكونجرس، تأكيداً لصيغة الفصل بين السلطات الصارمة. يتم اختيار المجمع الانتخابي طبقا لنصيب الولاية المحدد في دوائر الكونجرس التشريعية، تبعاً لعدد سكانها، بالإضافة إلى عضوين في الكونجرس يمثلانها. المرشح الرئاسي، الذي يحصل على أغلبية الأصوات الفردية في الولاية، يحصد أعضاء مجمعها الانتخابي جميعهم. هنا يأتي تأثير فكر جان جاك روسو في تحديد الإرادة العامة للمواطنين، بمعيار الأغلبية، فالأغلبية، في رأيه، لا تخطئ.
هذا ينطبق، على نتيجة الانتخابات الرئاسية، فالمرشح الذي يحصل على 270 صوتاً يكسب السباق على البيت الأبيض، لأنه حصد أغلبية المجمع الانتخابي لكافة الولايات. إلا أنه أحياناً قد يتفوق مجموع الأصوات الشعبية على أصوات الكلية الانتخابية، كما حصل في انتخابات 2016. هذا راجع للنظام الفيدرالي، الذي يحتكر العضوية في مجلس الشيوخ، كما أنه يرجع إلى تقسيمات الدوائر التشريعية، التي تحددها كل ولاية.
النظام السياسي الأمريكي هو تجسيدٌ غير مكتمل للديمقراطية الليبرالية، وهذا عائدٌ في الأساس لشكل الجمهورية الفيدرالي.