بقلم: هشام ملحم – الحرة
الشرق اليوم- تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وآخرها المغرب في الأسبوع الماضي له أسباب مختلفة، تتراوح وتتباين بين دولة عربية وأخرى. في حالة كل من المغرب والسودان كانت هناك مكافآت هامة: موافقة واشنطن على سيادة المغرب على الصحراء الغربية، ومكافأة السودان بحذف اسمه عن قائمة الإرهاب وإنهاء مطالب مواطنين أميركيين بتعويضات مالية لأن عنف تنظيم القاعدة طال أفراد من عائلاتهم حين كان أسامة بن لادن مقيما في السودان، ولحاجة السودان لدعم مالي أميركي.
ولكن هناك سبب أهم، نادرا ما يناقش علنا، وهو قلق بعض حلفاء واشنطن في المنطقة مثل إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة والسعودية ومصر وغيرها مما تراه هذه الدول عن حق، الانسحاب الأميركي البطيء والتدريجي العسكري وحتى السياسي من المنطقة الممتدة من جنوب آسيا، مرورا بالخليج وشرق المتوسط ووصولا إلى شمال أفريقيا. هذه الدول وفي طليعتها الإمارات وإسرائيل وتقف ورائها دول مثل السعودية ومصر تقوم الآن بإنشاء تحالفات سياسية واستخباراتية وعسكرية فيما بينها لمواجهة خصوم وأعداء مزمنين مثل النظام الإسلامي في إيران، وخصوم وأعداء جدد مثل تركيا وقطر والحركات الإسلامية والجهادية المتطرفة المتعاونة معها.
في حالة دولة الإمارات العربية المتحدة، الإعلان الرسمي عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل هو في الواقع إعطاء الغطاء الدبلوماسي لعلاقات موجودة على الأرض منذ سنوات بين البلدين وخاصة في مجال التعاون الاستخباراتي. أما في حالة المغرب، فالعلاقات تعود لعقود طويلة وهي تغطي مختلف المجالات الاستخباراتية والاقتصادية والثقافية، وهذه العلاقات متطورة أكثر بكثير من علاقات مصر وإسرائيل على سبيل المثال. وحين الإعلان عن إنشاء إسرائيل في “فلسطين التاريخية”، كان هناك أكثر من 250 ألف مواطن مغربي يهودي، شكلّوا جزءا من النسيج الإنساني والثقافي والسياسي المغربي. ولكن الأكثرية الساحقة منهم هاجرت في العقود اللاحقة إلى إسرائيل، حيث يصل عدد الإسرائيليين المتحدرين من يهود المغرب أكثر من 700 ألف نسمة.
ولليهود في المغرب جذور عميقة تعود لقرون قبل الفتح العربي. آخر موجات المهاجرين اليهود الى المغرب جاءت من الأندلس في أعقاب دورات الاضطهاد الدموي التي تعرضوا لها على أيدي مختلف القادة الكاثوليك خلال الفترة الطويلة المسماة: Reconquista، أي “إعادة غزو” الأندلس، أو حرب “استرداد” الأندلس من العرب والبربر واليهود، والتي انتهت في 1492 بطرد ما تبقى من اليهود والعرب والمسلمين من إسبانيا.
ولهذه الأسباب فإن “تطبيع” العلاقات بين المغرب وإسرائيل يختلف جذريا عن تطبيع العلاقات بين دولة الإمارات والبحرين والسودان مع إسرائيل. توقيت الإعلان عن استئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين المغرب وإسرائيل، يعود لموافقة الرئيس دونالد ترامب على الاعتراف بسيادة المغرب على منطقة الصحراء الغربية المتنازع عليها بين المغرب وجبهة البوليساريو منذ انسحاب إسبانيا من مستعمرتها السابقة في 1976. اعتراف ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، والذي يتنافى مع سياسة مختلف الإدارات الأميركية منذ بداية النزاع والتي احترمت قرارات الأمم المتحدة التي تدعو إلى تنظيم استفتاء شعبي في المنطقة لتقرير مصيرها، مماثل لاعتراف ترامب بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة والذي يتناقض مع أسلافه من الحزبين لأن الجولان وفقا للقانون الدولي، أرضا سورية احتلتها إسرائيل في حرب 1967.
مخاوف أصدقاء وحلفاء واشنطن في الشرق الأوسط من المضاعفات البعيدة المدى للانسحاب الأميركي التدريجي من المنطقة، تأكدت أكثر عقب قرارات الرئيس ترامب الأخيرة بسحب نصف عديد القوات المنتشرة في أفغانستان، على أن يتم سحب جميع القوات في منتصف 2021 إذا تم التوصل إلى اتفاق في المفاوضات بين حركة طالبان والحكومة في كابل، والتي ترعاها واشنطن.
كما خّفض ترامب من عديد القوات المنتشرة في العراق، ولاحقا أعلن عن سحب جميع القوات الأميركية تقريبا من الصومال. وكان ترامب يريد سحب جميع القوات الأميركية من سوريا، ولكنه عدل عن ذلك حين تم إقناعه بأن هذه القوات تحرس بعض آبار النفط، ولهذا السبب قال في السنة الماضية إن القوات باقية باسم السيطرة على النفط.
الانسحاب الأميركي السياسي (والاستخباراتي) من سوريا خلال الولاية الثانية لباراك أوباما، خلق فراغا كبيرا سارعت موسكو إلى ملئه عسكريا في 2015، ولحقتها تركيا في السنتين الماضيتين حين اجتاحت مناطق واسعة شمال سوريا للقضاء على التنظيمات الكردية المسلحة التي لعبت دورا بارزا في قهر تنظيم ما سمي بـ”الدولة الإسلامية” (داعش) وضد طموحات الأكراد السياسية بالحكم الذاتي او الاستقلال. كذلك الانسحاب الأميركي السياسي والعسكري من ليبيا، أيضا خلال ولاية الرئيس أوباما، خلق فراغا مماثلا سارعت روسيا وتركيا إلى ملئه، ما دفع بالإمارات ومصر لتعميق تورطهما في ليبيا لردع تركيا. وسوف يؤدي الانسحاب الأميركي من الصومال إلى توسيع دائرة التنافس العسكري بين تركيا التي بنت لقواتها قواعد جوية وبحرية، وبين دولة الإمارات التي لها أيضا وجود عسكري على الأرض في الصومال. ولتركيا اليوم قواعد عسكرية في مياه الخليج، في قطر، وفي البحر الأحمر، وفي البحر المتوسط، وذلك للمرة الأولى منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية.
وتقوم دولة الإمارات بمواجهة تركيا سياسيا وعسكريا في ليبيا والصومال، وهي مع إسرائيل ومصر تواجه نفوذ وسياسيات الترهيب التي تعتمدها تركيا تجاه قبرص واليونان في النزاع معهما حول التنقيب عن مصادر الغاز في البحر المتوسط في مناطق تعتبرها قبرص واليونان تابعة لهما. في سوريا تتدخل إسرائيل عسكريا بشكل دوري عبر غاراتها على القوات الإيرانية وقوات حزب الله التي تعمل تحت مظلتها.
قبل نهاية ولايته، طلب الرئيس السابق أوباما من جميع دول الخليج أن يشاركوا المنطقة فيما بينهم، كما طلب من دول الخليج العربية أن تتحمل المزيد من مسؤولية حماية أمنها. هذا الموقف، استخدمته السعودية ودولة الإمارات على أنه موافقة أميركية على تصعيد العمليات العسكرية ضد تنظيم الحوثيين في اليمن الذي احتضنه النظام الإسلامي في طهران ودعمه بالسلاح بما في ذلك الصواريخ الباليستية التي أطلقها الحوثيون بشكل عشوائي ضد العمق السعودي.
في البداية، ساعدت إدارة أوباما، ولاحقا إدارة ترامب في الحرب ضد الحوثيين من خلال توفير المعلومات الاستخباراتية عن الحوثيين ومن خلال الدعم اللوجستي للطيران السعودي الذي ساهمت غاراته العشوائية بقتل الآلاف من المدنيين، ومن بينهم عدد كبير من الأطفال. الإدارة الرديئة للحرب في اليمن ساهمت في إطالة معاناة اليمنيين لأكثر من 5 سنوات، وهي مسألة كان يمكن للولايات المتحدة أن تمنعها لو تدخلت بشكل فعال ولم تترك الفراغ الذي لم تستطيع الدول التي تهددها حركة الحوثيين وإيران ملئه بفعالية.
عملية الانسحاب الأميركي البطيء من المنطقة بدأت خلال ولاية الرئيس أوباما، وهي سياسة أراد ترامب أن يكملها بسرعة أكثر، لو لم يجد معارضة من وزارة الدفاع والأهم من الجمهوريين في الكونغرس. أوباما تحدث عن ضرورة “التحول” إلى شرق آسيا، المنطقة الأهم للولايات المتحدة اقتصاديا وعسكريا، بمعنى التصدي للنفوذ الصيني المتزايد ولسياسات الصين العدائية، تجاه حلفاء واشنطن في المنطقة.
لا أحد يتحدث عن انسحاب أميركي كامل من المنطقة، ولكن ما هو واضح ومؤكد أن تخفيض الوجود العسكري في المنطقة سوف يستمر بغض النظر عن الحزب الحاكم في البيت الأبيض في السنوات المقبلة. وهناك إرهاق أميركي من أطول حربين في تاريخ الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وهناك معارضة متنامية للكلفة المالية لهذا الوجود العسكري الواسع، الذي لم يعد مبررا باسم حماية المنطقة من طرف خارجي كما كان الحال خلال وجود الاتحاد السوفياتي. كما أن اعتماد الولايات المتحدة على نفط الخليج لم يعد مسألة حيوية واستراتيجية لأن الولايات المتحدة أصبحت الآن الدولة الأكثر إنتاجا للطاقة في العالم. وعلى سبيل المثال صدّرت السعودية خلال شهر أكتوبر 73 ألف برميل نفط في اليوم فقط إلى المصافي الأميركية، وهي أقل كمية نفط تصدرها إلى الولايات المتحدة منذ أكثر من ثلاثة عقود. نفط الخليج لا يزال مهما لحلفاء واشنطن، ولكنه فقد أهميته الاستراتيجية والاقتصادية للولايات المتحدة.
أخطأت الولايات المتحدة عندما تصرفت بعنجهية وفوقية حين سعت إلى تغيير الأنظمة المارقة في المنطقة، وبناء الديمقراطية الجيفرسونية على ضفاف نهري دجلة والفرات وفي دول أخرى في المنطقة. ولكن بدايات الانسحاب من المنطقة خلال ولاية الرئيس السابق أوباما، والتجاهل المطلق لحقوق الإنسان كما رأيناه خلال ولاية الرئيس ترامب، كان له انعكاسات سلبية. لا التشدد في الإملاءات السياسية، ولا الحضور العسكري المكثف والخانق يخدم مصالح الولايات المتحدة وأصدقائها في المنطقة. تخفيض الحضور العسكري الضخم هو أمر ضروري سياسيا وعسكريا وماليا، ولكن ذلك يجب أن يتم بطريقة تأخذ بعين الاعتبار عدم خلق فراغ أمني يستغله أعداء الولايات المتحدة. كما أن ترك أمن المنطقة كليا لدولها، لا يعني أن هذه الدول سوف تتصرف بحكمة ولن تدخل في مغامرات وتحالفات عسكرية مكلفة. هذه هي الحقائق العسكرية والسياسية المعقدة التي ستواجهها إدارة الرئيس جوزف بايدن في الشرق الأوسط.