بقلم: عدلي صادق – العرب اللندنية
الشرق اليوم- كانت ولا تزال تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب وتغريداته الرافضة لنتائج الانتخابات الأميركية، تؤثر سلبا في التوجهات الاجتماعية الأميركية العامة، وتجعل الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة، الأكثر إضرارا وأطول استمرارا في الإضرار بالبنية الإدارية والقانونية للانتخابات وللسلم الأهلي تاليا. وقد وصف العالم والمؤرخ الروسي بيتر تورشين، المختص في التطور الثقافي للمجتمعات، والتحليل الإحصائي لديناميكياتها التاريخية، أن ترامب دفع الولايات المتحدة بلا هوادة، نحو الانهيار الاجتماعي الكبير، وشبّه تورشين الدولة، بسفينة ضخمة متجهة إلى جبل جليدي قائلا “طالما كان لديك نقاش بين الطاقم حول الاتجاه الذي يجب أن تتجه إليه، فلن تستدير في الوقت المناسب، وستصطدم بقوة، بجبل الجليد!”.
لقد عقب على هذا الرأي، الصحافي والناشط الأميركي جوناثان راوخ، قائلا “إن جزءا من المشكلة هو أن طاقم ترامب، ربما لم يعد قادرا على التحدث مع بعضه البعض، لأنه افتقد اللغة المشتركة، وضيّع منهجية الفهم أو دستور وأساسيات معرفة ما يجري”. ويرى راوخ في تفشي عملية التصيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وممارسة عمليات الهدم المتعمد للثقة في جميع الحقائق، يمثل تقويضا خطيرا ومستداما للإجماع الاجتماعي، الذي يدعم النسيج الأساسي للديمقراطية، ويطيح ببداهة الموافقة على نظام الحكم والتداول على السلطة.
ويقول هذا الكاتب إن الولايات المتحدة، قد واجهت العديد من التحديات لثقافتها السياسية، لكن هذه هي المرة الأولى التي تشهد فيها الدولة الأعظم، هجوما معرفيا ممنهجا على المستوى الوطني، ينطلق من أعلى مستويات السلطة، ويفتك بالقدرات الجماعية على التمييز بين الحقيقة ونقيضها الزعم الزائف!
ويذهب الكثيرون في الولايات المتحدة إلى القناعة بأنه على عكس الأكاذيب والدعاية العادية، التي تحاول جعل الناس يصدقون شيئا ما؛ فإن المعلومات المضللة، التي روجها ترامب جعلتهم يرفضون ادعاءاته.
ومن خلال رصد هذه الظاهرة الناشئة على نحو غير مسبوق في الولايات المتحدة، نطالع أراء بعض الكتاب والصحافيين الجمهوريين، الذين ساندوا ترامب وقراراته طوال فترة ولايته، نجد أن ديفيد بروكس، وهو واحد من أكثرهم شهرة، يصبح معاديا لترامب، ويكتب في صحيفة “نيويورك تايمز” مقالا نقديا حادا ومريرا، بعنوان “تعفن العقل الجمهوري” ويشرح مخاوفه من أن تؤدي ممارسات ترامب إلى “أزمة على مستوى نظريات المعرفة”، يحملها وينقلها كالفايروس، كل الغارقين في القلق والاغتراب، ومن توغل فيهم الإحساس بأن كل شيء خرج عن السيطرة، وبات عُرضة لنظريات المؤامرة.
هذا الفايروس يمثل أدوات هدم عاطفية نافذة وفعالة للغاية، لاسيما وسط الناس البسطاء الذين لا ينتمون إلى مجموعات وشرائح عليا. ففي مثل هذه الحال، يصبح في مقدور الإنسان البسيط، محدود المعرفة، أن يتمثل وضع الشخص المتفوق، ويكون قادرا على القول إن لديه معلومات مهمة لا يمتلكها معظم الناس!
ويُدلي كاس سنستين من كلية الحقوق بجامعة هارفارد، بدلوه ويذهب في الاتجاه نفسه ويقول “حين يتخيل الإنسان أن من يخالفونه الرأي أعداء أشرار، فعندئذ يمكنه أن يستخدم أي تكتيك يريد!”.
من خلال ذلك يتضح جليا أن هناك مشكلة ناشئة عن ضياع الفهم المشترك لمعنى السياسة والديمقراطية، الذي هو حجر الأساس الضروري للسياسات الرشيدة التي تضيق الفجوة بين الأطراف المتنافسة، وتجعل الفارق بين الجمهوريين والديمقراطيين، انقساما لا نهاية له ولا يمكن معالجته بأي مستوى من التوافق. بل إن العكس هو الذي سيحدث، إذ سيؤدي هذا الانقسام إلى صيرورات غير متوقعة، فيتسبب مثلا في جرف الطرفين إلى وضع الجفاء البات، الذي يجعلهما غير قادرين على الحكم أو توفير الاستقرار لمؤسسة السلطة!
ولا يدع الألمان هذه المسألة تمر دون تعليق، فيكتب يوخن بيتنر الصحافي في جريدة “دي زييت”، أن رفض ترامب قبول نتيجة الانتخابات يعكس رفضا مشابها لرفض الألمان، قبول الهزيمة في الحرب العالمية الأولى في العام 1918، ويقول “أدى إنكارهم إلى ولادة أكذوبة سياسية أكثر قوة وكارثية في القرن العشرين، من خلال الترويج لفكرة الطعن في الظهر، وتلك فكرة ترعرعت النازية في كنفها!”.
ففي ذلك المثال الألماني، كانت هناك رواية وطنية لا تتزعزع عن الاضطهاد والتعرض للظلم، وقد اكتسبت قوة في سنوات ما بعد الحرب وأرست بذور نجاح هتلر. وكتب بيتنر “سقطت أول ديمقراطية في ألمانيا بجريرة ذلك الإحساس وتلك الفكرة”. ويستطرد قائلا “دون إجماع أساسي مبني على واقع مشترك، انقسم المجتمع إلى مجموعات من الحزبيين المتحمسين المتصلبين. وفي جو من عدم الثقة والبارانويا، ترسخت بشكل مطرد فكرة أن المنشقين كانوا يشكلون تهديدات للأمة”.
يختلف رأي تورشين الروسي الأميركي، عن الترامبية وأتباعها، لكنه وغيره يرون أن القاعدة الاجتماعية للترامبية تمثل “فائض النخبة” أو جموح الطبقة الأليغارشية وأتباعها أو مواليها العنصريين المسكونين بفكرة تفوق الرجل الأبيض، بينما المفترض في المجتمعات الحديثة الثرية، أن تعتمد منهج تثقيف وتوسيع المجتمعات المهنية والإدارية والعلمية والأكاديمية، بشكل أعمق وأسرع، وأوفر إنتاجا للعنصر الواعي الذي يمكن أن يشغل عددا من المناصب المهمة.
وإن عدنا إلى تورشين، نتأمل تأكيده بأن تجربة ترامب جعلت عددا أكبر من النخب السياسية والاجتماعية “يقاتل من أجل المنصب نفسه، على النحو الذي من شأنه تحويل جزء منهم إلى نخب مضادة، وهذه فجوة خلقها ترامب”.
بالنتيجة يمكن القول، إن كان الماركسيون يرون أن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ ، فإن تورشين يرى أن الصراع الآن، بعد ولاية ترامب، سيكون بين متنافسين من النخبة نفسها، داخل الطبقة الأليغارشية الحاكمة.
وإذا كان حزب المحافظين في بريطانيا، خلال فترة حكم مارغريت تاتشر، قد جسد حال الإحباط في أوساط الأثرياء من الحرس القديم الأرستقراطي؛ فإن الترامبية هي التي حاولت تسخير أثرياء الغرب، المُحبطين، والمُستبعدين من الطبقة الوسطى، لقيادة التمرد على أوضاع اجتماعية ـ اقتصادية قائمة، ولمواجهة تحالف المحرومين والسود والملونين لإحباط طموحاتهم، لكن اعتراضات الجمهوريين على مواقف ترامب الأخيرة، جعلت النخبة المتماسكة، داخل الحزب المحافظ نفسه، تنقسم وتعاني من مشكلة معرفة، ومن تضييع معنى السياسة والديمقراطية.