بقلم: مختار الدبابي – العرب اللندنية
الشرق اليوم- على أبواب الذكرى العاشرة لاحتجاجات “الربيع العربي”، لا شيء في تونس يوحي بأن ثورة 2011 قد حققت نتائج لفائدة الناس، وعلى العكس فأوضاعهم زادت سوءا، كما انتشر بينهم الخوف على المستقبل أكثر من أي وقت مضى، بسبب غياب الدولة/ السلطة شبه الكامل على أرض الواقع.
السلطة في مفهومها الحديث تطْبق قبضتها على المجتمع، وتطوق مساحة الحرية لديه، ولا تفرج عن بعض التنازلات إلا عند الضغط، لكنها بالتوازي، تدير المؤسسات بقوة، وتوفر الأمن، والمواد الأساسية، ومواطن العمل بالقدر الذي تسمح به توازناتها وارتباطاتها الطبقية. لكن دولة الثورة، لا تملك مقومات السلطة، ليس لها قبضة، ولا رغبة في خدمة الناس. لديها رغبة وحيدة هي مراكمة الديون لإدارة الصراع السياسي بين أحزاب وافدة على الدولة وتقاليدها، ولا تتقن سوى الشعارات.
وكلما ضعفت الدولة زاد الصراخ السياسي لهدف وحيد، هو منع الناس من النزول إلى الشارع لاستعادة الدولة كقوة جامعة، حتى لو كان سجل تلك الدولة قائما على القمع والفساد ومراكمة الثروة لدى مجموعة محدودة من رجال الأعمال والعائلات ذات الثقل التاريخي.
المهم أن تعود الدولة، وأن يشعر الناس بالأمان في ظل السلطة التي سِيقوا يوما للتظاهر ضدها تحت رغبة جامحة للتغيير. الآن الأمر بات معاكسا، فالنخبة التي كانت تبحث عن ديمقراطية بلا ضوابط ولا حدود، باتت تطالب بالانقلاب العسكري المباشر والعودة إلى بيت الطاعة الذي هجره “الثوار” لاختبار شعاراتهم.
عجز الخصوم الذين كان نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي يتحكم فيهم بقبضة السلطة ومناورتها بضرب البعض وإغراء البعض الآخر ليتحول إلى واجهة للدعاية، عجز هؤلاء جميعا عن إدارة الديمقراطية في حدها الأدنى وبصورتها البورجوازية المفرغة من أي عمق اجتماعي.
اكتشف الجميع أن بداخل كل طرف سياسي من حاملي السرديات الكبرى صورة مصغرة لدكتاتور تكبر مع الوقت لتتحول إلى رغبة جارفة في إسكات الآخرين ومنعهم باسم الديمقراطية من إظهار اختلافهم.
ما يجري في البرلمان التونسي يظهر أن الديمقراطية كانت مجرد مطية لتغيير منظومة حكم كانت تدير شؤون البلاد بقبضة قوية ولا تسمح بظهور هويات مغايرة لمنافستها، وأن الطبقة السياسية الجديدة تريد استعادة تلك القبضة وبأي تكاليف، وبينها العنف اللفظي الذي يكشف عن مخزون كبير من الحقد وتضخم الأنا، والرغبة في إفناء الآخر بكل السبل.
من جانب نجد ائتلاف الكرامة الإسلامي الشعبوي، الذي قفز على براغماتية حركة النهضة وتكتيكات زعيمها راشد الغنوشي، وعاد هذا الائتلاف إلى المربع الأول بالدعوة إلى تطبيق الشريعة ليس كنظام حكم، ولكن لإظهار أنه يمتلك مفاتيح الفرز على الهوية، وتغذية مناخ العنف الذي ساد في الجامعة التونسية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي بين الإسلاميين واليساريين، وما يزال ذلك المناخ يتحكم في المشهد السياسي كعنصر تقسيم سريع المفعول.
من جانب آخر، نجد تيارا تحديثيا بعناوين كثيرة يشترك في مرجعيته اليسارية، بعضه راديكالي، والآخر “تحريفي”، والثالث لم يبق لديه من ماركسيته سوى الحنين إلى الفرز على الهوية ومواجهة “الرجعية” ولو دون برامج أو بدائل..
ولا يخفي هذا التيار رغبته في تفعيل فصول في الدستور تتيح “نشر الجيش” ووضع بعض نواب البرلمان والوجوه السياسية تحت الإقامة الجبرية، مثلما جاء على لسان محمد عبّو مؤسس التيار الديمقراطي.
يضاف إلى هؤلاء التيار القومي الناصري بوجهيه العروبي الأقرب إلى الهوية الإخوانية، الذي بات يدافع عن الإسلام كجزء من التشريع، والوجه الثاني الأقرب إلى الماركسية، وكلاهما لا يخفي رغبته في استعادة تجارب الحكم القومية عن طريق الانقلاب، ودعوة الرئيس التونسي قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري أن يبحث عن “فتوى قانونية” تسمح بحل البرلمان، ووضع الأحزاب تحت المساءلة.
ويظهر الاحتماء بالهويات الأيديولوجية القديمة أن الطبقة السياسية الوافدة بعد الثورة قد فشلت في اختبار أفكارها على أرض الواقع، كما فشلت في المنافسة بسوق الأفكار والشعارات. لكن الأهم أنها وقفت على حقيقة أن العالم لم يعد يحتاج لتلك المثل القديمة، وللخطباء المفوهين الذين لم يتقنوا سوى شيء واحد، شيطنة الآخر واللعب على المظلومية لجذب تعاطف الناس، وهو ما فشل فيه الجميع، إسلاميين ويساريين وقوميين.
إن العودة إلى مربع الهويات، هي عودة إلى المجال الحيوي الآمن، الذي يسمح بالبقاء على قيد الحياة. لكن هذه العودة ستكون لها نتائج عكسية، فلا أحد من دعاة الانقلاب على الديمقراطية وعلى الانتخابات كآلية فرز الأكثر عدالة وتكافؤا للفرض، أو على قيم المجتمع وفسخ مدونة الأسرة وامتهان المرأة، يستطيع في المستقبل أن يقنع الناس بأن الديمقراطية طريق آمن للتغيير العميق الذي يحسن أوضاعهم.
والديمقراطية نفسها ضحية مجموعات سياسية امتهنت السرية لعقود، ولم تكن تفلح سوى في إصدار بيانات التنديد بأداء السلطة.. هل يمكن لهذه المجموعات، التي تؤمن بأنها تمتلك الحقيقة لوحدها، أن تقبل بأن تختار صناديق الاقتراع خصومها، وهذا ما يفسر سياسة التعطيل ووضع العصا في العجلة خلال السنوات العشر الأخيرة من عمر الانتقال السياسي الذي شهدته البلاد.
صحيح أن الديمقراطية فضحت أحجام هذه المجموعات، كما كشفت عن صعوبة الترويج لأفكارها بين الناس، لكن الديمقراطية ليست هدفا في حد ذاتها، وهي تحتاج إلى مصالحة مع الدولة كجهة منتجة للقوة للحفاظ على مصالح الناس.
والطريق إلى هذا ليس بانقلاب، قد يفتح الباب أمام أيام صعبة في البلاد، ولكن بتصحيح الديمقراطية وتخليصها من أدوات إرباكها في خطوة أولى، وعلى رأسها القانون الانتخابي الذي تمت صياغته بهدف رهن البلاد إلى الصراعات من خلال خلق برلمان مشتت لا يقدر فيه أي حزب على الحكم بمفرده، أو بناء تحالف متين يمكن أن يحقق مكاسب للناس، ولا يكون مرهونا لأمزجة بعض النواب والدوائر التي تقف وراءهم.
كما أن هذا الجدل، مهما كانت حدة الصراع الحالية، والتي قد تتطور إلى عنف أوسع وتوظيف الشارع في حسم الخلاف، سينتهي إلى توازنات سياسية جديدة تصعد فيها الحركات والأحزاب البراغماتية على حساب الأجنحة الثورية.
المستقبل سيكون للمجموعات الليبرالية التي تشكلت من داخل منظومة الحكم التي سبقت ثورة 2011 على شرط أن تكون براغماتية هادفة إلى استعادة الفاعلية في خدمة الناس، وليس صراعات للتمكين الشخصي وصناعة زعامات من نفس مناخ الأحزاب العقائدية، أي قيادة تلغي تحويل الأحزاب إلى مؤسسات سياسية للتغيير واستيعاب الانتقال الديمقراطي داخلها حتى تكون قادرة على تحويله إلى أمر دائم في الواقع بعيدا عن صراخ الأيديولوجيات..
وبالنتيجة، تونس تحتاج إلى أفكار وأحزاب هادئة وسياسيين غير موهومين على أن يغادروا مربع الهويات بلا رجعة.