بقلم: عاصم عبد الخالق – صحيفة الخليج
الشرق اليوم– لو أن هناك تطوراً واحداً في 2020 يستدعي قلق الولايات المتحدة، فهو بالتأكيد ميلاد التحالف الاقتصادي الآسيوي العملاق منتصف الشهر الماضي، دون أن تكون عضواً فيه.
يضم التجمع، وهو أكبر تكتل إقليمي للتجارة الحرة في العالم، 15 دولة تتقدمها الصين التي لعبت الدور الأكبر في تأسيسه، أو كما وصفتها الصحف الغربية فهي القابلة التي ولد على يديها هذا الكائن العملاق، بعد أن تعثر خروجه إلى الحياة ثماني سنوات كاملة، جرت خلالها مفاوضات مضنية ومساومات شاقة.
وإلى جانب الصين، يضم التحالف الذي يحمل اسم «اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة» 14 دولة، هي البلدان العشرة الأعضاء في رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان)، إضافة إلى اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، ونيوزيلندا.
لن تكون أمريكا سعيدة وهي بعيدة عن تكتل بهذا الحجم يضم ثلث سكان العالم تقريباً، وتنتج بلدانه 30% من الناتج الإجمالي العالمي. ويتوقع معهد بيترسون الأمريكي أن يدعم التجارة العالمية بنحو 500 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة.
ما يزيد من تعاسة أمريكا هو أنها كانت غارقة في معركتها العبثية حول نتائج الانتخابات، عندما جرى الاحتفال بتوقيع الاتفاق الجديد تتويجاً لجهد هائل بذلته الصين، بهدوء وصبر، لتعزيز دورها العالمي، وترسيخ قيادتها في محيطها الإقليمي.
وعلى الرغم من أنها تتجنب تسويق الاتفاق باعتباره انتصاراً وطنياً، فإن الواقع يقول إنها حققت إنجازاً بالفعل ووجهت ضربة قاسية ومؤلمة لواشنطن، ليس فقط في حربهما التجارية، ولكن أيضاً على صعيد منافستهما الاستراتيجية الأوسع نطاقاً. ويبدو أن الصين لم تشأ أن يرحل ترامب دون أن يكون لها شرف توجيه الضربة الأخيرة في الجولة الأخيرة معه.
لم تعزل الصين أمريكا؛ بل عزلت أمريكا نفسها بإخلاء الساحة للعملاق الأصفر ومنحه فرصة قيادة التجمع الجديد. قبل ذلك في يناير 2017 كان ترامب قد اتخذ أحد أكثر قراراته تهوراً، بالانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وكانت أوسع نطاقاً من الاتفاق الجديد. ما حدث بعد ذلك كان الأهم، حيث اجتمعت الدول الإحدى عشرة الأخرى الأعضاء، وقررت الاستمرار دون أمريكا، وكوّنت منظومة جديدة باسم اتفاقية الشراكة الشاملة والمتقدمة عبر المحيط الهادئ. وهكذا أصبحت أمريكا خارج أكبر كتلتين للتجارة الحرة في آسيا؛ القلب النابض للمال والأعمال في القرن الحادي والعشرين.
الدرس الذي لا تستوعبه أمريكا هو أن العالم سيمضي بدونها. وأنها عندما تتخلى عن دورها القيادي سيتقدم آخرون لملء الفراغ، وهو ما تفعله الصين بذكاء ودأب. بقدر ما كسبت الصين، خسرت أمريكا المنكفئة على نفسها، في ظل سياسات انعزالية تبناها ترامب طوال السنوات الأربع الماضية.
ومن هنا، يمكن رؤية الاتفاق الجديد ليس فقط كانتصار صيني خاص، ولكن أيضاً باعتباره انتصاراً عاماً لمبدأ حرية التجارة في مواجهة الحمائية والحواجز الجمركية، كما أنه انتصار لقيم التعددية والعمل الجماعي، مقابل سياسات وإجراءات الانكفاء على الذات والفردية.
الغريب أن يكون العملاق الشيوعي هو الذي يدعو ويحارب من أجل الليبرالية الاقتصادية، والتعاون المشترك، وفتح الأسواق، في حين تأتي المقاومة لكل ذلك من جانب واشنطن؛ قبلة الحريات وزعيمة الرأسمالية في العالم.
لم يعد الوقت في صالح أمريكا، والمشكلة كما يصفها جينيفر هيلمان، خبير الاقتصاد السياسي في مجلس العلاقات الخارجية، هي أن العالم لن ينتظرها حتى تحل مشاكلها الداخلية، وتفرغ من محاربة كورونا، وتعيد بناء اقتصادها.
لن ينتظر العالم أيضاً الرئيس المنتخب جو بايدن حتى يعيد ترتيب البيت من الداخل. كل شيء يتغير سريعاً وإلى الأبد. سيجد بايدن آسيا جديدة غير تلك التي كان يعرفها عندما كان نائباً للرئيس قبل أربعة أعوام. الصين التي يواجهها لم تعد هي الصين التي تحدت ترامب؛ أصبحت أكثر قوة ونفوذاً. وإذا كانت معركتها معه قد انتهت برحيله، فإن حربها مع أمريكا مستمرة ولن تنتهي.