بقلم: خطار أبو دياب – العرب اللندنية
الشرق اليوم- تغيرت فرنسا والشرق الأوسط والعالم في ما بين حقبة الرئيس الفرنسي الأسبق الراحل فاليري جيسكار ديستان (1981-1974) وحقبة الرئيس إيمانويل ماكرون التي بدأت في 2017. خلال هذا الفاصل الزمني استمر اهتمام باريس بالشرق الأوسط الذي يمثل محورا أساسيا لسياستها الخارجية خاصة وأن التحولات الجذرية التي بدأت في سبعينات القرن الماضي لا تزال تتردد أصداؤها وانعكاساتها في بدايات العقد الثالث من هذا القرن، إن على صعيد الصراع العربي – الإسرائيلي أو اندلاع حروب لبنان واستقرار الخليج وحروب العراق وسوق النفط و”الثورة الإيرانية” ونزاع الصحراء والصلات مع الجزائر وليبيا.. لكن من حقبة ديستان إلى حقبة ماكرون لم تتمكن فرنسا من الحفاظ على مواقع نفوذها وكان هناك الكثير من النكسات، وبقي العامل المشترك الأهم وهو أولوية العامل الاقتصادي وبعد ذلك التركيز على إيران.
تجمع الكثير من الصفات والمسارات بين الرئيسين ديستان وماكرون؛ فقد كان الأول في عمر 48 عاما، أصغر رئيس للجمهورية الخامسة في فرنسا، ولكن الثاني وصل إلى سدة الحكم وعمره أربعون عاما وأصبح الرئيس الأكثر شبابا. كما يجمع بين الرئيسين أنهما نتاج النخبة الفرنسية. فقد تخرجا من “المعهد العالي للإدارة” وانتميا عمليا إلى نفس توجهات الوسط الليبرالي والتمسك بالخيار الأوروبي للحفاظ على موقع فرنسا العالمي.
وبينما عمل ديستان من أجل تحديث فرنسا ومنح أدوار أكبر للشباب والمرأة للخروج من الخط المحافظ، يعمل ماكرون بعناء على تميز فرنسي في سياق العولمة. وكما شكلت الصدمات الاقتصادية خاصة “صدمتي سوق النفط” معيقا لنهج ديستان، وكانت لذلك صلة بتوترات الشرق الأوسط، تعاني فرنسا حاليا ليس فقط من تداعيات جائحة كورونا بل أيضا من كسوف دورها والدور الأوروبي في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط.
كان ديستان سباقا وترك بصماته على السياسة الدولية. منذ وصوله إلى الإليزيه في 1974، تنبه الرئيس الجديد للعولمة التي كانت بصدد التبلور، واختار دبلوماسية متعددة الأقطاب. وأعلن في العام 1975 أنه “ستكون سياسة فرنسا الخارجية سياسة عالمية وتوافقية. لهذا السبب يمكننا أن نقول: إني صديق الجميع، إني صديق السوفييت، إني صديق الأميركيين…”. انطلاقا من ذلك، بدأ ديستان سياسة الانفتاح في أفريقيا حيث كان أول رئيس فرنسي يزور الجزائر المستقلة في 1975. ولكن ابتداء من العام التالي، اشتبكت باريس والجزائر حول مسألة الصحراء المغربية. ونفس المسار تقريبا ينطبق على ماكرون الذي زار الجزائر في بداية حملته الانتخابية ووعد بتنقية الذاكرة والاعتذار عن أخطاء الاستعمار، لكن عدم وجود إجماع فرنسي واضطراب الوضع في الجزائر، أديا إلى مراوحة في المكان سببت عودة التوتر أخيرا إلى نزاع الصحراء في إحراج باريس.
أما في باقي بلدان المغرب العربي فقد كانت علاقات ديستان مع العاهل المغربي الملك الراحل الحسن الثاني ورئيس تونس الحبيب بورقيبة من دون غيوم، على العكس تماما مع العقيد معمر القذافي بسبب نزاع تشاد في المقام الأول ولدور ليبيا في أفريقيا. أما مع ماكرون فنجد تقريبا الصورة نفسها خاصة أن الرئيس الفرنسي الحالي ورث تدخلا فرنسيا لم يكلل بالنجاح، ومع تحول ليبيا إلى مسرح لعبة إقليمية – دولية معقدة تجهد باريس من دون نجاح لبلورة توافق أوروبي مؤثر.
في المشرق، يبدو التباعد أكبر بين موقفي ديستان وماكرون من المسألة الفلسطينية إذ كانت باريس خلال عهد الأول قد قادت المجموعة الأوروبية (سلف الاتحاد الأوروبي الحالي) للاعتراف بالحق الفلسطيني وبالصفة التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية خلال قمة البندقية في يونيو 1980، وكان ذلك مقدمة للاعتراف العالمي والأميركي لاحقا. بينما تميزت مرحلة ماكرون بتراجع للدور الفرنسي أمام زخم الدور الأميركي خلال عهد دونالد ترامب.
ولا بد من الإشارة إلى أن التطور الإيجابي النسبي للموقف الفرنسي والأوروبي إزاء الفلسطينيين لم يكن ليحصل لولا آثار حرب 1973 ومبادرة “قطع البترول” وما أعقبها من افتتاح حوار عربي – أوروبي. ومنذ تلك الحقبة ازداد الاهتمام الفرنسي بالعراق والدول العربية في الخليج، علما أن مؤسس الجمهورية الخامسة شارل ديغول قد أرسى أسس “السياسة العربية لفرنسا” من أجل تجاوز آثار حرب الجزائر والتدخل في حرب السويس. ولذا يندرج الانفتاح على المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة في هذا السياق (زار ديستان الرياض في يناير 1977 وزار المغفور له الملك خالد بن عبدالعزيز باريس في 1981، وكانت علاقة الرئيسين ديستان وأنور السادات ممتازة، وزار المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان باريس في 1975 بينما قام ديستان بزيارة أبوظبي في مارس 1980).
بيد أن التركيز كان على العراق الذي اعتبرته فرنسا بوابة مهمة لتركيز نفوذ لها في الشرق الأوسط وكان هناك منذ حقبة ديستان تعاون سياسي وعسكري وعلمي، وكان رئيس وزراء ديستان الراحل جاك شيراك من صانعي هذا التقارب. واليوم مع ماكرون بعد كل تعرجات التاريخ يعود السعي الفرنسي إلى ترتيب العلاقة مع العراق وإحياء دوره الإقليمي.
لكن بعيدا عن العراق والمشرق كان التحول العالمي الكبير يبدأ مع الغزو السوفييتي لأفغانستان وحينها لم يكلف ديستان نفسه عناء استنكار ذلك كما فعل غيره من الحلفاء الغربيين. افتتح ذلك مرحلة إعلاء الدور الديني في السياسة والتركيز على صراعات العالم الإسلامي. وأعقب ذلك “الثورة الإسلامية الإيرانية” التي قادها آية الله الخميني من مقره الفرنسي وتمت استضافته في عهد ديستان وقامت القوى الغربية بتغطية إسقاط الشاه. وهنا يكمن الدور الملتبس لفرنسا في عهد ديستان وهي تبرره لضرورات التحالف واحترام حرية الشعوب الإيرانية. لكن من يعلم جيدا مدى النفوذ التاريخي للبريطانيين والأميركيين في هذا البلد، يمكن أن نفترض وجود طموح عند بعض الدوائر الفرنسية في الرهان على بناء علاقة مع بلد استراتيجي واقتصاد واعد. ونفس هذا الطموح يحاكيه ماكرون في حقبتنا هذه علما أن إيران التي طورت علاقاتها مع المعسكر الشرقي تبقى مهتمة أكثر بعلاقاتها مع ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وعلى ما يبدو أن النظام الإيراني لم ينس دعم فرنسا للعراق في الحرب مع إيران.
هذه الحسابات التاريخية تحضر في شرق المتوسط خاصة في سوريا ولبنان. ويشار إلى أن انفجار “حروب لبنان النقالة” بدأ في عهد ديستان، ويومها في عام 1975، حاولت باريس التدخل، لكنها تحت الضغط الأميركي عادت وسلمت بالتدخل السوري تحت عنوان “حماية المسيحيين”. إلا أن صلات باريس بمنظمة التحرير الفلسطينية والعراق أغضبت النظام السوري في حقبة ديستان وزادت من التوتر حول لبنان وفي ملفات أخرى.
وحاليا في حقبة ماكرون تسعى باريس إلى إنقاذ مبادرتها تحت عنوان “منع زوال لبنان في الذكرى المئوية الأولى لتأسيس كيانه”. لكن كما كانت متاعب ديستان مع إسرائيل (حصل أول تمركز للقوات الفرنسية ضمن قوات حفظ السلام الدولية في 1975 بعد أول اجتياح إسرائيلي للبنان في 1978 ردا على العمليات الفلسطينية) ومع سوريا، يجد ماكرون نفسه مقيدا بعدم تسهيل مهمته من قبل إيران وحزب الله بالرغم من إصراره على الحوار معهما.
تبدو الملفات متشابكة والتاريخ لا يمكن أن يعيد نفسه على نفس المنوال، لكن الشرق الأوسط كما أفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط يبقى في صدارة الاهتمامات الاستراتيجية والاقتصادية الفرنسية بالرغم من اختلاف الأساليب بين رئيس وآخر. يبقى الحصاد محدودا نظرا إلى قلة الإمكانات، ويتطلب نجاح السياسة الفرنسية المزيد من الوضوح والتماسك، وتغييرا في سياسات مرّ عليها الزمن وفشلت.