بقلم: كوليت بهنا – الحرة
الشرق اليوم- أيام قليلة ويختتم العام جريانه الزمني، مخلفاً وراءه سنوات عشر رسمت عقداً مثيراً واستثنائياً في السجل التاريخي لعدد من الدول العربية، التي شهدت ثورات شعبية أو انتفاضات أو غيرها من أشكال الحراك العام، أدت إلى إزالة أو زحزحة أو تبدلات جوهرية، طالت ثوابت راسخة وجامدة سابقة في الحياة العامة، تتعلق بالمشهد السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، أو جميعها كحزمة مترابطة، فضلاً عن أهميته كعقد محوري ومفصلي يتطلب الكثير من الدقة العلمية في دراسته بغرض تقييم الآثار الناجمة عنه سلباً وإيجاباً، وتمتعه بالمؤشرات الرئيسة القابلة للقياس.
في نظرة انطباعية عامة، يمكن توصيف هذا العقد بالكابوس العربي في تأثيره على المشهد السياسي العام القديم والراسخ، الذي اضُطر في بعض الحالات إلى تقديم تنازلات ثمينة لم تكن متوقعة أو مدرجة في حساباتها لولا ضغط حراكها الشعبي من ناحية. ومن ناحية مقابلة مضادة، وعي بعض الحالات الصعبة والمتجذرة للخسائر والتنازلات الجوهرية والوجودية المتوقع أن تدفعها، بالتالي مهارتها باستيعاب صدمة ومخاطر هذا الكابوس، وتغيير مساره من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم، بحيث حوّلت مفاعيله ليطال حراكها الشعبي بذاته، وتحويل حيوات أفراده إلى جحيم.
يمكن في هذا الانعكاس الأخير، التعامل مع مصر ولبنان، كأنموذجين لما تقدم، حيث إن أسوأ الأخبار، أو الأكثر إثارة للجدل، تخرج من هاتين الدولتين مؤخراً، ورغم أن لبنان كأنموذج تأخر نسبياً في اندلاع ثورته “الشاملة” التي سجلت زمنياً في السابع عشر من أكتوبر العام الفائت، إلا أنه بلد كان مركزاً متفاعلاً مع أشكال الحراك العربي والإقليمي العام، ومصبّاً لآثارها السلبية والايجابية معاً.
مصر التي بدلت رأس الهرم مرتين خلال السنوات العشر الفائتة، يلاحظ أنه وبالرغم من الثورات الشعبية المضادة التي خرجت أكثر من مرة لأغراض تصحيحية، مازالت السلطات السياسية تحكم وفقاً للثوابت السياسية القديمة المتجذرة، والتي تترجم، بحسب الأخبار المتواردة والمثيرة للقلق، بزيادة جرعات القمع والتضييق على الحريات العامة، تحت مسميات وذرائع أمنية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية مختلفة، لاتتوافق مع وعودها والتزاماتها السابقة والمعلنة للعامّة بتبنيها لجوهر التغيير الذي حملها إلى سدّة الحكم، والتي دفع الشعب المصري لأجله أثماناً غير قليلة، طالت الاستقرار العام والخسائر في الأرواح والأرزاق.
أما في لبنان، يبدو الوضع أكثر كارثية نظراً لطبيعة حكمه الطائفية التعددية والتشاركية، وهي تشاركية لم تسفر عن ديناميكيات حيوية تترجم على الأرض بمزيد من الانفتاح والمرونة وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الذاتية والشفافية أو الممارسة الديمقراطية الحقيقية وغيرها، بل بدت تشاركية أنانية في مصالحها الذاتية والعليا، أسفرت عن جبهتين حادتين، الساسة والشعب.
تتوحد الجبهة الأولى يوماً إثر يوم وتتغول ضد شعبها وتحطمه اقتصادياً ومعنوياً ووجودياً، بما يحقق هيمنة السلطة السياسية ككابوس مستقر ومسلّط فوق رقاب العباد، وترجمة هذه الرؤية “الكابوسية”، باللجوء إلى مزيد من تمييع الحلول الانقاذية المطروحة، أو وضع العقبات في طريقها، بما يسد جميع منافذ التنفس والأفق أمام جبهة الشعب، التي باتت مضعضعة وأسيرة لأوضاع مزرية لاتحسد عليها.
إذا استبعدنا استبداد الفكر الديني الذي نما في السنوات العشر الأخيرة بشكل ملحوظ تحت مظلة وموافقة الاستبداد السياسي وتناغم معه في بعض الحالات في الجوهر والهدف، يمكن التوقف عند التغييرات العميقة والجوهرية الإيجابية التي طالت القواعد الشعبية، من حيث وعيها وإدراكها لهذين الاستبدادين وفهما الكامل لأهدافهما، لكن دون أن تتمكن هذه القواعد الشعبية من إحداث تغيير لواقعها كما يجب لأسباب عدة، في مقدمتها عدم تمكنها حتى اليوم من إزالة آثار الدرس القاسي الذي لقنته لها السلطات السياسية على كافة الصعد، واستمرار إفقارها الممنهج وفقاً لسياسات مدروسة، تقود الفرد إلى التقوقع الذاتي أو التفكير بالهروب والهجرة، ونبذ العمل في الشأن العام، وحصر الاهتمام بكيفية ملاحقة الرزق اليومي والاحتياجات الوجودية الرئيسة، بل اللهاث خلفهما.
ينظر البعض أحياناً إلى الشعوب نظرة استعلائية تحمل الكثير من الاستغباء، لكن الشعوب في حقيقتها، وبعد عشر سنوات من زمن استثنائي تذوقت مراراته بأشكال مختلفة، وفي هذه الأوقات تحديداً، وفي ظل انفتاح العالم ومايسرته التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي وساهمت في كسر محظوراته، يمكن الاطمئنان نسبياً إلى أنها شعوب مازالت حيّة وواعية، ترى وتحلل وتفهم كل مايجري حولها، لكنها صابرة، غير قادرة على تغيير كابوسها في الوقت الحالي، بعد أن تفهمت أن هذا الكابوس لم يستمر بسبب قوته الذاتية أو جبروته، بل لأسباب ومصالح دولية أكبر وأكثر أهمية بكثير من أحلام الشعوب.
يقول مثل شعبي:” كأنك يابوزيد.. ماغزيت”، بمعنى الإحساس باللاجدوى لرحلة لم تسفر عن نتيجة، بل ربما زادت الطين بللاً، لكن الحقيقة أن نظرة عامة لما أنجزته الشعوب خلال العشرية التي تكاد تنصرم، هو تحول شديد الأهمية ويعول عليه، أبرز مافيه أنه أعاد إيقاظ دور الفرد وأهميته، وتنشيط فكره واستثارة وعيه الذي خدر لعقود، رغم معدته الخاوية وهيمنة الكابوس العام.