بقلم: صغير الحيدري – العرب اللندنية
الشرق اليوم- لا تزال دعوات إجراء حوار وطني يخرج تونس من أزمتها الراهنة تراوح مكانها بالرغم من تقديم الاتحاد العام التونسي للشغل، أعرق النقابات في البلاد، مبادرته رسميا للرئيس قيس سعيد ليدشن بذلك نقاشا صاخبا حول حظوظ مبادرته وقدرة الأطراف السياسية وغيرها على حلحلة الأزمة السياسية التي أخذت أبعادا أخرى اقتصادية واجتماعية.
وهذه المبادرة التي جاءت بعد طول انتظار يمكن اعتبارها بمثابة ’’حصان طروادة‘‘ للعديد من الأطراف السياسية، على غرار حركة النهضة الإسلامية التي تمر بأحلك ظروفها وسط انقسامات داخلية وكذلك الرئيس سعيد الذي خير الانكفاء على ذاته متجاهلا الأصوات المنادية بتدخله لحل أزمة البلد.
ومما لا شك فيه أن مبادرة الاتحاد قد تحظى بالنجاح ويدعو سعيد إلى حوار وطني، لكن الشكوك تُخامر جل المتابعين بشأن فرص نجاح أي حوار في الظرف الراهن الذي تمر به تونس لاسيما بعد أن تباينت ردود فعل الأطراف السياسية وتعمد البعض حتى المناورة لإجهاض هذه المبادرة.
مبادرة اتحاد الشغل كانت متوازنة وتراوحت النقاط التي طرحتها بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي – اقتصادي لتقطع بذلك المركزية النقابية ذات النفوذ الواسع في تونس الطريق أمام أية ذريعة لمقاطعة مبادرتها.
وعرض فريق الخبراء الذي وضعه الاتحاد على الرئيس سعيد إنشاء هيئة حكماء تُشرف على هذا الحوار وتتكون من شخصيات وطنية مستقلة وتمتنع عن الترشح لأي استحقاقات مقبلة.
لكن ذلك لا يعدو أن يكون نجاحا نسبيا لجملة من الأسباب، أولها أن البلاد لا تزال تعاني تداعيات انتخابات 2019 التي أفرزت برلمانا منقسما على نفسه يعجز عن بلورة موقف موحد، علاوة على ’’الفيتوات‘‘ التي يرفعها البعض في علاقة بهذا الحوار، ووجود مسارات “موازية” يحاول البعض السير فيها على غرار محاولة رئيس حركة النهضة الإسلامية الذي يرأس البرلمان أيضًا راشد الغنوشي إخضاع الجميع لمشيئته وجعل باردو (مقر البرلمان) مكان الحوار الحقيقي والشرعي باعتبار أن البرلمان منتخب مباشرة من الشعب.
ولم يتوان اتحاد الشغل في القول بأنه لن يبقى مكتوف الأيدي بينما البلاد تنزلق إلى مربع خطير مع تصاعد الاحتجاجات في بعض الجهات وتأزم المشهد السياسي، وهو الذي يرفض التفاوض مع ائتلاف الكرامة الذي ينتهج خطابا متطرفا عمق الانقسام السياسي في البلاد.
وبعيدا عن الاتحاد، الذي كانت له المبادرة أيضًا ورعاية الحوار الوطني في نسخة 2015، يقف الحزب الدستوري الحر ليرفض التفاوض مع الأطراف التي من المقرر أن تشارك في الحوار الوطني، والتي من بينها حركة النهضة الإسلامية.
لكن الحزب الذي بات يتبوأ مرتبة مهمة في المشهد السياسي قد يلحقه ضرر كبير في حال التوافق مع الإسلاميين وغيرهم على خارطة طريق أو تهدئة ولو وقتية إلى حين إنهاء حالة التشرذم التي تعصف بالبلاد، لذلك يخير الدفاع عن برامجه بعيدا عن خيارات التوافق التي جُربت في تجربة حزب نداء تونس وانتهت بتفككه.
ومن جهته خرج قيس سعيد، الذي لم يتبين للتونسيين بعد برنامجه لإصلاح المنظومة السياسية والاجتماعية وتحييد القضاء عن التجاذبات السياسية، من دائرة الشخصية المجمّعة للتونسيين برفعه أكثر من فيتو على أطراف بعينها من بينها حزب قلب تونس الذي يتزعمه نبيل القروي، والذي يرفض سعيد التفاوض معه.
وخلال استقباله للأمين العام لاتحاد الشغل الاثنين، ألمح سعيد إلى هذا الرفض من خلال القول بأنه ’’لا مجال للحوار مع الفاسدين‘‘، موضحا أن ’’الحوار الوطني هذه المرة يجب أن يقطع مع التصورات القديمة‘‘.
وبالرغم من التفاؤل الذي أبداه رئيس كتلة قلب تونس البرلمانية، أسامة الخليفي، بشأن مشاركة حزبه الذي قال إنه ’’من غير المعقول إقصاء الحزب الثاني في البلاد من هذا الحوار‘‘، فإن من المستبعد أن يكون له دور في هذا الحوار، ما يعمق الانقسامات والتجاذبات قُبيل حتى الدعوة إلى الحوار.
ما لم يُقل في مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يعول التونسيون كثيرا على دوره في هذه المرحلة، هو مدى تهيؤ البلاد والأطراف الفاعلة لقبول مخرجات هذا الحوار التي تحوم حولها الشكوك قبل حتى الدعوة إليه.
فالاتحاد، كما غيره من الأطراف السياسية في تونس، مصمم على مراجعة العديد من النقاط في علاقة بالمشهد السياسي، من بينها تمويل الأحزاب والجمعيات ومراجعة القانون الانتخابي وتقييم تجربة الحكم المحلي، وهي نقاط شديدة الحساسية بالنسبة إلى العديد من الأطراف التي تُحاول شخصنة الحوار في سياق التنازع حول الشرعيات والصلاحيات.
كما أن الرأي العام في تونس، الذي يُدرك تماما أن ثمار هذا الحوار -إذا كُتب له النجاح- لن تُقطف في غضون أيام وإنما هو مطالب بالصبر، يتخوف من إعادة استنساخ تجربة الحكم الأولى بعد انتخابات 2019، والتي أفرزت إلياس الفخفاخ رئيسا للحكومة مدعوما من الأحزاب المحسوبة على الخط الثوري التي لا تُمانع الآن المشاركة في الحوار؛ وهي أحزاب حركة النهضة الإسلامية وحزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب وتحيا تونس وأطياف سياسية أخرى.
ولا يُستبعد أن يُفضي الحوار إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تُطيح بالحكومة الحالية التي يرأسها هشام المشيشي، وهي مغامرة يصعب التكهن بنتائجها إذ من المستبعد أن تنجح أحزاب الائتلاف الحاكم الأول في قيادة تجربة موفّقة باعتبار أن ما يفرقها أيديولوجيا وغيره أكثر مما يجمعها.
في المحصلة، دعوات الحوار الوطني في تونس ولدت ولادة صعبة بالرغم من التفاؤل الذي ينبغي إبداؤه حيالها، حيث تشي كل المؤشرات بأنه من الصعب التوصل إلى التوافقات اللازمة لقيادة المرحلة المقبلة في البلاد.
كما أن البدايات التي كانت مرتبكة في مجملها من خلال دعوات مكثفة كشفت عن تعمق الانقسامات بين الأطراف التونسية تؤكد أن مبادرات الحوار لم تُطبخ على نار هادئة حيث تستعجل كل هذه الجهات الظهور في ثوب المنقذ، بينما غابت الآليات التي قد تفضي إلى حوار ناجح، وكذلك غابت الضمانات من الأحزاب السياسية التي تتحمل جزءا كبيرا من مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع حاليا.