بقلم: طاهر عمر – الراكوبة السودانية
الشرق اليوم- عندما نتحدث عن فكر الإنسانيين بديهي يسوقنا إلى فكر من قدحوا شرارة عقل الأنوار أمثال ميشيل دي مونتين الملقب بسيد القرن السادس عشر قرن الإنسانيين بلا منازع. و عندما نتحدث عن ميشيل دي مونتين يمكننا أن نسمع في حديثنا صوت عمانويل كانط وكلود ليفي أشتروس و كل منهما يفتخر بأن أستاذه المبجل هو ميشيل دي مونتين و هو يثق في قدرة الانسان لدرجة تجعله لا يستغرب من كل فكر صادر من الانسان في مختلف الأمكنة لأنه انسان و لا يجد غرابة فيما يصدر من المجتمعات الانسانية مهما اختلفت مشاربها لذلك لقب بسيد القرن السادس عشر أي قرن الانسانيين بلا منازع.
و الغريب العجيب أن ميشيل دي مونتين صادف أن يكون زمانه متزامن مع قيام دولة الفونج الاسلامية أي السلطنة الزرقاء كما يحلو للهوويين الصاخبين أن يعملوا على تأبيدها و بالمناسبة قد رمزوا لها بالعودة الى سنار و قد أصبحت كأنها أرض ميعاد ينبغي العودة إليها كما رأينا فكرة أرض الميعاد عند اليهود لذلك قد أصبحت مسيرة الفكر في السودان لا تخرج من خط سنار المهدية الانقذ الثمرة المرة للحركة الاسلامية السودانية.
و من هنا تبداء مسيرة الفكر في السودان معاكسة لسير مسيرة البشرية في سبيل ترسيخ فكرة العقلانية التي تسند فكرة الانسانية التاريخية التي تقوم على الأخلاق و ليس على الدين و من صميم العقلانية قد انبثقت فكرة الدولة الحديثة التي لا يمكن أن تكون بغير العلمانية فالدولة الحديثة و العلمانية التي لا تحابي الأديان هما نتاج العقلانية و من هنا يمكنك أن تلاحظ لجلجة النخب السودانية من مواجهة قبول فكرة العلمانية التي لا تحابي الاديان.
انها ياسادة و أقصد هنا لجلجة النخب السودانية نتاج مسار فكر سنار المهدية الانقاذ الثمرة المرة للحركة الاسلامية السودانية و تحت قبضتها قد أصبح الشعب السوداني كالسالك في الظلمة كما يقول أشعياء النبي و هذا الخط أكبر جدار صد يحول ما بيننا و العقلانية و بالتالي أكبر سد يمنعنا من الاقتراب من فكرة الدولة الحديثة و يمنعنا من التفكير مليا في فكرة العلمانية التي لا تحابي الأديان و من فكرة الانسانية التاريخية التي تقوم على الأخلاق و عبرها قد تجاوزت مواكب البشرية كل من العرق و الدين في مسار النشوء و الارتقاء كما يقول هابرماس و قد رأينا الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني محاولا تجاوز إلتباس هابرماس في محاولته في كتابه الأخير الايمان الحر أو ما بعد الملة متجاوز نواح المثقف التراجيدي.
هل وضح لك جزء من الغاطس من جبل جليد فكر النخب السودانية و كيف استكانت الى فكر مسار سنار المهدية الانقاذ؟ و إلا كيف كيف تفسر ابتهاجهم حتى اللحظة بفكر محمد ابراهيم نقد في حوار الدولة المدنية و علمانيته التي تحابي الأديان؟ و هل عرفت سبب جرأءة الشفيع خضر و بكل قوة عين متحدثا عن مساومة تاريخية ما بين يسار سوداني رث و يمين غارق في وحل الفكر الديني؟ هل سمعت الحاج وراق في قوله الذي يجلب الرعب و فكرة مهادنة الطائفية و أحزابها و كذلك مهادنة النسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية؟ هل تتذكر لقاء نيروبي عندما وقع كمال الجزولي في الفخ و أقصد فخ لقاء نيروبي الذي نصبه لهم الاسلامي خالد التجاني النور و خرج كمال الجزولي بالتوفيق الكاذب ديدنهم في الترقيع و التلفيق؟
على أي حال هذه النخبه المذكورة أعلاه يمكنك أن تستدل بضلالها على بعد المسافة التي تفصل ما بيننا و فكر الانسانيين كما رأينا افتخار كل من كلود ليفي اشتروس و عمانويل كانط بأنهما تلاميذ ميشيل دي مونتين و عندما نذكر ذلك نعني أنهم و في نظرهم لم تعد الميتافيزيقا أرض معركة كما رأيناها في نظر النخب السودانية المذكورة في أعلى المقال بل نجد أنثروبولوجيا عمانويل كانط كانت في انتصارها لمجد العقلانية و ابداع العقل البشري.
و من فكر الانسانيين أمثال ميشيل دي مونتين و عمانويل كانط قد أصبحت فكرة حقوق الانسان تحتل مكان فكرة التوحيد التي قد شغلت قلب الأديان لأزمنة طويلة نعم ميثاق حقوق الانسان قد أصبح توحيد العصر أي عصر الانسانيين كما كانت تمثل فكرة التوحيد قلب الأديان السماوية و لا يمكن ترسيخ فكرة التوحيد الجديد أي فكرة ميثاق حقوق الانسان إلا بفكر الانسانيين و ليس بفكر الحاج وراق مهادن الطئفية و لا مساوم كحال الشفيع خضر و لا متلجلج كصاحب حوار الدولة المدنية أي محمد ابراهيم نقد و لا صاحب التوفيق الكاذب و أقصد كمال الجزولي في لقاء نيروبي هؤلاء يمثلون كهنة الأصنام الذهنية و الذاكرة الأزلية كما رفضها داريوش شايغان .
في وقت قد أصبحت فكرة الشرط الانساني لا يمكن تحقيقها بغير السياسة في انتصارها للحرية على الهوية بل أصبحت الهوية هي فعل الانسان السياسي و بالتالي قد أصبحت تجسد فكرة الانتصار للحرية و ليست الهوية في زمن الفرد و العقل و الحرية زمن الحداثة التي قد قضت على جلالة السلطة و قداسة المقدس كما يقول بودلير. في زمن قد تجاوزت فيه مواكب البشرية كل من العرق و الدين و أصبحت المجتمعات البشرية تنبني على الأخلاق و ليس على الدين لذلك لا غرابة في أن يفك أدم اسمث ارتباط الاقتصاد من الفلسفة و الدين كفيلسوف أخلاق و على نفس المنوال تستطيع الدولة ابنة العقلانية و شقيقة العلمانية أن تفك ارتباطها بالدين و تقوم على فكرة الأخلاق.
و بالمناسبة ذكرنا أسماء النخبة السودانية في أعلى المقال لكي نوضح اضطراب فكرهم للقارئ المدرب ذو القراءة العاقلة غير القراءة الناعسة التي لا يخرج منها ذوي القراءة الناعسة بغير الموافقة و الاشادة بفكر كل من محمد ابراهيم نقد و كمال الجزولي و الشفيع خضر و الحاج وراق و هؤلاء لم يكونوا يوم أعلى مقام من ادورد سعيد الذي قد اجتهد في كتابه الأخير الأنسنة و النقد الديمقراطي ليوضح فكرة العقلانية و نادى بفكر يرسخ للنزعة الانسانية و نجد ادورد سعيد قد انتقد فكره في كتابه ذائع الصيت الاستشراق بأنه قد خدم الأصولية الاسلامية أكثر من خدمته للتنوير.
فادورد سعيد في كتابه الأخير ذو نزعة انسانية تعتمد على العقل الانساني في مقدرته على قراءة تجربة الانسان و انصاته لضمير الوجود حيث نجد فكر ادورد سعيد في الأنسنة و النقد الديمقراطي يتجه الى أفكار الانسانيين الكبار كما فعل ميشيل فوكو في رجوعه من انتقاده لعقل الحداثة و قبله قد جسد فكره في أفكار ما بعد الحداثة. و هنا يمكننا أن نرى كيف يستطيع الفكر أن يتخطى حواجز صد حاولت أن تقف أمام عقل الأنوار و لكن قد تراجعت كما رأينا تراجع كل من ميشيل فوكو و ادورد سعيد فميشيل فوكو من ضمن أخطاءه التي لم يغتفرها لنفسه كان يعتقد أن الخمينية ثورة و عندما أدرك خطاءه قال لم يعد مفكرا استراتيجي بسبب هذا الخطاء الشنيع.
اذا سألت نفسك لماذا استطاع ادورد سعيد أن ينتقد أفكاره في الاستشراق و عاد في كتابه الأخير ذو نزعة انسانية عقلاني يؤمن بالقطيعة مع التراث في وقت يقبع فيه مفكرينا رغم أنهم نتاج اليسار السوداني في مهادنتهم و مساومتهم و حوار دولة مدنية و علمانية محابية للأديان و توفيق كاذب نتاج التفليق و الترقيع؟ لأنهم نتاج يسار سوداني رث ما زال يؤمن بالمطلق في زمن العقلاني و النسبي و هنا ينام سر مهادنتهم و مساواتهم و تلفيقهم و حوار مدنية و علمانية محابية للأديان.
و اما إلتقاهم مع أحزاب وحل الفكر الديني أي أحزاب الطائفية و السلفيين و الحركة اسلامية أي إلتقاء أحزاب وحل الفكر الديني من كل شاكلة و لون مع النسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية فهناك قاسم مشترك أي أن كل من أحزاب اللجؤ الى الغيب تقدم حلول نهائية من فكرها اللاهوتي الغائي الديني كما تقدم النسخة المتخشبة للشيوعية حلول نهائية تتمثل في فكرة نهاية التاريخ و انتهاء الصراع الطبقي.
و إلتقاهم الأبدي في اعتقادهم في المطلق لاهوتي ديني غائي في زمن العقلانية و المجتمع الذي يقوم على الأخلاق زمن الانسانية التاريخية و فيها أن فكرة الديمقراطية لا تعني أنها كنظم حكم فقط بل تحمل معنى العدالة كما رأينا في انتصار توكفيل على ماركس اننا في زمن الفرد و العقل و الحرية زمن خروج الدين و لم يعد للدين دور بنيوي على صعد السياسة و الاجتماع و الاقتصاد. فعلى الشعب السوداني أن يعرف أن مسألة الوطن لم تعد مسألة دينية و السلطة في المجتمع الحديث مصدرها الشعب و ليس الدين لأن الانسانية التاريخية تقوم على الأخلاق و ليس على الدين.
فمخرجنا الوحيد هو فكر الانسانيين المتجسد في انتصار كانط في الكانطية الجديدة على الهيغلية و الماركسية و انتصار توكفيل على ماركس و انتصار ريموند أرون على سارتر أيها الشعب السوداني لا سبيل غير الديمقراطية لكي تخرجوا من حيز المجتمعات التقليدية الى عتبة المجتمع الحديث حيث يكون الانتصار للعقل و الفرد و الحرية و قطعا لا يكون ذلك عبر أحزاب وحل الفكر الديني من كل شاكلة و لون و لا بالنسخة المتخشبة من الأيدولوجية المتحجرة بل بأحزاب تؤمن بالعقل و الفرد و الحرية أننا في زمن العقلانية و النزعة الانسانية و زمن الانسانية التاريخية التي تقوم على الأخلاق و ليس على الدين فالانسان التاريخي قد أصبح قادر بل معتمد على عقله فنحن في زمن مجد العقلانية و ابداع العقل البشري.