بقلم: رستم محمود – الحرة
الشرق اليوم- فقط 1500 يوم، هي المُدة التي احتاجها كبير مستشاري الرئيس التركي بولنت أرينج، لـ”يفجر قنبلة” ويقول إن التُهم الموجهة لزعيم حزب الشعوب الديمقراطية المعارض، والمؤيد لحقوق الأكراد، صلاح الدين ديمرتاش “لا تستطيع أن تُقنع حتى طفلاً”، المُعتقل منذ وقتئذ، ودون محاكمة، ومثله عشرات الآلاف من معتقلي الرأي والسياسة في تركيا.
ليس في الأمر أية هِداية ربانية أو إشراقة فلسفية إصلاحية، غيرت فجأة من مواقف الرجل ورؤاه، بل حسابات شديدة الدقة أجراها أرينج، تجاه طيف من التحولات السياسية المستجدة، الداخلية والإقليمية والدولية، المحيطة والمؤثرة على أحوال تركيا ونظامها السلطوي. اكتشف أرينج في محصلتها بأن القفز من مركبة الرئيس نحو خطاب “السياسي الاصلاحي” هو فعل أكثر أماناً لمستقبله السياسي، وهذا ما فعله.
أي أن الأمر بمجمله مجرد “انعكاس عصبي سياسي”، استجابة بيولوجية مباشرة لما قد يداهم هذه الشخصية السياسية في المستقبل القريب، ولا علاقة له بأية نزعة حقوقية أو تحديثية ديمقراطية صار يتبناها، فجأة!.
أرينج كان شريكاً وعضواً فاعلاُ في مشروع يمين الوسط “الإصلاحي”، الذي تبناه حزب العدالة والتنمية منذ عقدين، حيث كان أرينج من مؤسسي هذا الحزب، وبقي يطرح نفسه من ضمن نخبة الإسلام السياسي/القومي التركية، التي تناوبت على حُكم البلاد منذ عقود، كأكثر المتحمسين لتحديث البلاد اقتصادياً وإدارياً ودمقرطة الحياة العامة سياسياً.
جمعيهم كانوا رفقة وشركاء إردوغان طوال السنوات الماضية، مخططين لسياساته ومنفذين لها
لكنه، ومع كل تلك المحفزات، بقي صامتاً طوال تلك الفترة، غاضاً النظر عن “جرائم” سياسية ملفقة، يدبرها رئيسه وأقرب أصدقائه، تجاه قادة وسياسي ومثقفي وأثرياء البلاد، محافظاً على وده وولائه وموقعه ومصالحه بالقرب من الفاعل/الرئيس، ككبير المستشارين، ثم ردد عبارته الاستنكارية تلك فجأة، واستقال من منصبه!، وصار يعرض نفسه كـ”صقر” اصلاحي، متمرد على رئيس شمولي!.
بخطوته هذه، ينضم أرينج إلى طيف من القادة السياسيين الأتراك، الذين مروا بهذه التجربة تماماً، وتسابقوا في مسارها الوحيد.
فجمعيهم كانوا رفقة وشركاء إردوغان طوال السنوات الماضية، مخططين لسياساته ومنفذين لها، من رئيس الوزراء السابق ومنظر حزب العدالة والتنمية أحمد داوود أوغلو، مروراً بوزير الاقتصاد السابق علي باباجان، وصولاً لأرينج وغيره المئات من الشخصيات السياسية الأخرى، الحاكمة والمعارضة على حدٍ سواء، التي صارت تطالب بإصلاح وتحديث أحوال البلاد فجأة، حينما صار المستقبل السلطوي للحزب الحاكم وقادته في خطر.
إردوغان نفسه، ظل طوال الأسبوعين الأخيرين يطرح أشياء من مثل تلك، واعداً بأن حكومة حزب العدالة والتنمية ستطبق إصلاحات للنظامين القضائي والاقتصادي، بالتعاون مع حلفائها القوميين!. قائلاً في آخر كلمة أمام الكتلة البرلمانية لحزبه: “نسرع في تنفيذ الإصلاحات القضائية، وسنعرض مجموعات من الإصلاحات الأخرى على البرلمان، ونضع اللمسات النهائية على خطة عمل حقوق الإنسان!”.
بينما كان أردوغان يقول كلماته تلك، فأن ذهنه كان مشغولاً بما يهدد استقرار حُكمه، وليس تحديث بلاده واصلاح نظامها الحاكم.
فالإدارة الأميركي المنتخبة حديثاً، تعد بممارسة أقصى الضغوط على نظام الحُكم في تركيا، بالذات فيما يتعلق بإثارة ملف الحريات وحقوق الإنسان، التي صارت أحوالها في تركيا كثيرة التدهور، حسب المعايير والمؤشرات العالمية الرصينة.
طوال القرن التاسع عشر، الذي عُرف في التاريخ العثماني بـ”قرن الاصلاحات”، اتخذت الإمبراطورية العثمانية حزمة من الاصلاحات التحديثية
كذلك صار واضحاً للساسة الأتراك بأن الأحوال الاقتصادية ذات جذر سياسي، وأن القوى والمؤسسات الدولية، الأوربية على رأسها، مع كبار المستثمرين وشركاتهم، لن يعودوا لتبي ومساعدة تركيا بأي شكل، دون حزمة واضحة من الاصلاحات في قلب الحياة السياسية، أو الوعد بها على الأقل.
فوق الأمرين، فأن قوى المعارضة تُظهر تناغماً معقولاً فيما بينها، بالذات بين حزب الشعب الجمهوري “الأتاتوركي” وحزب الشعوب الديمقراطية “المؤيد لحقوق الأكراد”. الأمر الذي قد يوفر تحالفاً سياسياً توافقياً فيما بينها، يهدد مستقبل التحالف الحاكم.
كل ذلك يدور في ذهن إردوغان والحلقة الأضيق المقربة منه، ومثلهم المتمردون السياسيون على تنظيمه الحزبي، وإلى جانبهم قادة المعارضة والنُخب السياسية في البلاد، والكُل يرى في “الخطابية الإصلاحية” أداة مناسبة للتعامل مع ذلك، ديناميكية حيوية للصعود وتأمين المراكز السلطوية، وفقط كذلك. فما يجري هو “استخدام للإصلاح” لا إصلاح بذاته، مزيج من الخطابات والحسابات، دون أفعال والتزامات أخلاقية.
طوال القرن التاسع عشر، الذي عُرف في التاريخ العثماني بـ”قرن الاصلاحات”، اتخذت الإمبراطورية العثمانية حزمة من الاصلاحات التحديثية، من التنظيمات التي اُتخذت عامي 1839-1856، مروراً بوضع الدستور عام 1876 وتشكيل البرلمان العثماني وإصدار لوائح القوانين والمدراس الحديثة والمؤسسات القضائية وتغير آلية الانتساب إلى الجيش… الخ.
لكن، وفي السياق التاريخي، لم تكن تلك الاصلاحات العثمانية نتيجة تحولات اقتصادية واجتماعية وصناعية وفلسفية داخل المجتمع ونُخبة الحُكم العثمانية، كما كانت في تجربة الإصلاح والتحديث الأوربية، بل كانت مجرد استجابة انعكاسية لهزيمة الجيوش العثمانية وتعضد بينان سلطة الدولة ونظامها الحاكم وضغوط الدول الخارجية وانهيار الاقتصاد المحلي، وحيث أن نُخب الحُكم كانت تترجى من تلك “الإصلاحات” إنقاذ شيء ما من تلك السلطة، أو إطالة عمرها لأبعد مدة ممكنة، وفقط كذلك.
أي أن مسار الإصلاح العثماني كان مبايناً لسياق التحديث الأوربي، حيث أن التحولات والتطورات لم تكن نتيجة هزائم عسكرية أو ضغوط خارجية أو انهيارات اقتصادية، بل كانت انتصاراً حتمياً لنضالات المجتمعات الداخلية وتطور أحوالها ووعيها، فاقتلعت حقوقها عبر الإصلاح، ورغماً عن السُلطة الحاكمة.
ما يحدث راهناً في تركيا هو مسار عثماني تماماً. نُخب الحُكم تستشعر خطراً داهماً، تستخدم “خطاب الإصلاح” لمواجهته، مثلما قد تستخدم الجيش وشبكات الفساد، وربما الحروب والجرائم المنظمة، لنفس الغرض بالضبط، إدامة الحُكم.