بقلم: محمد أبو الفضل – العرب اللندنية
الشرق اليوم- سواء أحكمت الحكومة المركزية قبضتها تماما على مقلي عاصمة تيغراي أم لا، ففي الحالتين سوف تظهر إثيوبيا جديدة، فالانتصار في المعركة الجارية لا يعني انتهاء الحرب، لأن هناك صعوبة في اقتلاع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي من جذورها بعد سنوات طويلة من التمترس السياسي والاجتماعي والأمني في الإقليم.
يعني تمكن آبي أحمد رئيس الحكومة من فرض سيطرته العسكرية وإخضاع الإقليم لسلطته وتطبيق رؤيته في محاسبة قياداته، أنه لم يعد يميل إلى الأساليب الدبلوماسية، حيث قدمت هذه الحرب وجها خشنا لم يكن معروفا عنه من قبل، ومن لمسوا خشونته سلفا حاولوا تفهم دواعيها، واعتبروها مؤقتة وواجبة.
يشير هذا الوجه إلى تخلّ فاضح عن الوعود السابقة بشأن الإصلاحات السياسية وتوسيع نطاق الحريات وحقوق الإنسان والالتفاف حول المشروعات التنموية، وهي المفردات التي عززت صعوده مبكرا إلى رئاسة الحكومة.
كما يشير إلى أن المنطقة أمام قيادة تعيد ذكريات القبضة الحديدية التي عاشتها إثيوبيا لفترة طويلة، في عهد منغستو هيلا مريام، ثم ملس زيناوي، ورسمت للبلاد صورة قاتمة، خرجت منها قليلا على يد آبي أحمد ووعوده البراقة.
أدت الحرب إلى طي صفحة الحديث عن انتخابات عامة أو على الأقل وفرت الأجواء المناسبة لمزيد من التأجيل، وهي الصفحة التي مثلت الشرارة لاحتدام التظاهرات والاحتجاجات، ثم فجرت الخلاف مع تيغراي عندما تصرف الإقليم بصورة أحادية، وأجرى انتخابات في سبتمبر الماضي دون التنسيق مع المركز، وهو ما استفز آبي أحمد، ووجد هيبته السياسية في مهب الريح.
اختارت الحكومة الإثيوبية أصعب الطرق في التعاطي مع تيغراي، وسلكت أسهلها في البداية، وأصعبها في النهاية، وهو الطريق العسكري الوعر، ولم تمنح فرصة كاملة للحوار والمرونة أو الوساطة وتقريب المسافات، وكأن هذا التوجه مقصود بذاته، لأن تقليم أظافر تيغراي، بل تقطيع أصابعه، يحمل مجموعة من الرسائل القوية للأقاليم الأخرى إذا راودها تفكير في التمرد على الحكومة.
قطع رئيس الوزراء على مدار عامين جزءا كبيرا من أذرع تيغراي المتمددة في الجيش والاقتصاد وأجهزة الدولة، والتي مكنت الإقليم من التحكم في كثير من مفاصل الحياة، ولم يبق له سوى كسر كبرياء قادته في عقر دارهم، ولن يتسنى له ذلك إلا من خلال معركة شرسة كفيلة بردع كل من تسول له نفسه الخروج عن سلطته.
راهن آبي أحمد على كثافة المرارات الداخلية والخارجية مع تيغراي ليكسب التعاطف معه، وأصبح على وشك الفوز بالرهان، وهي رسالة توحي أن الفضاء الإقليمي يقف معه، فالتطويق الصارم الذي فرضه، والصمت عليه من قبل جهات متباينة أوحى بأنه استعد جيدا لمواجهة تيغراي وإخضاع الإقليم بكل التصورات والممارسات.
تتجاوز المعركة حدود الكرامة أو تصفية الحسابات المعروفة بين الجماعات العرقية، وتؤكد أن آبي أحمد كان يبحث عن فرصة يكشر فيها عن أنيابه، فلم تفلح مزايداته وتعنته في أزمة سد النهضة في تقديمه كزعيم قومي للشعوب الإثيوبية.
وأدى إصرار مصر والسودان على التمسك بمنهج المفاوضات ورفض الحياد عنه إلى تفويت الفرصة تلو الأخرى عليه، وعندما ألمح إلى عدم استبعاد استهداف السد عسكريا لم يقدم دليلا واحدا على دعايته.
بدا في نظر بعض الجهات قليل الخبرة السياسية، لأن إدارته لملف سد النهضة مع كل ما حملته من غطرسة لم تكن كافية لتعكس صورة شخصية قوية، وتحول فوزه بجائزة نوبل للسلام إلى قيد عليه، حجّم تصرفاته المتعلقة بإدارة ملف المياه، واضطر أحيانا لينحني للرياح السياسية ويبتعد عن التصعيد ويعود إلى طاولة المفاوضات.
بحث رئيس الحكومة الإثيوبية عن نصر بلا حرب مع مصر فلم يتمكن من تحقيق هدفه، فقرر أن يحصد النصر عن طريق الحرب مباشرة، فعجل بها مع تيغراي، لأنها تعني تثبيت أركان سلطته، وتمحو الصورة الذهنية التي انطبعت عنه كرجل سلام وكفى، في منطقة حافلة بالعواصف العاتية، سياسيا وأمنيا.
وقدم نمطا للقيادات الإثيوبية التقليدية التي تلجأ إلى القوة الغاشمة لفرض سلطتها، بعد أن فشل في تسويق نمطه الخاص القائم على إخضاع الشعوب بالليونة، فعلى مدار أكثر من عامين تعثرت خطواته، وأوشكت إخفاقاته على الصعيد الداخلي أن تنهي مسيرته.
لن تعني السيطرة على العاصمة مقلي وإخضاع إقليم تيغراي أن المعركة حسمت لصالحه، أو من حقه رفع راية النصر عالية، ففوز القوات النظامية عملية معقدة، حيث تحول الأمر إلى معارك استنزاف طويلة، تلعب فيها الميليشيات والكتائب المسلحة دورا رئيسا، فهناك نحو ربع مليون شخص في تيغراي لديهم خبرات قتالية كبيرة.
دخلت إثيوبيا بؤرة الحروب الأهلية من بابها الواسع، لأن شرارة تيغراي يمكن أن تمتد إلى أقاليم أخرى، ما ينعكس سلبا على الطموحات التي صاحبت صعود آبي أحمد، وهذه المعركة كفيلة، حال استمرارها لبعض الوقت، أن تغير من أولويات الحكومة المركزية، فبدلا من الاهتمام بالتنمية يجري التركيز على الحروب وطقوسها.
اختصرت طريقة التعامل مع أزمة تيغراي الكثير من الأسئلة الدقيقة حول مصير الدول ذات العرقيات المتعددة، وحصرت الإجابة في أولوية المنهج العسكري دون سواه، وتم تصوير الموقف على أنه تمرد على سلطة الدولة وليس تمردا على سوء الاستغلال السياسي من جانب فئة حاكمة.
تقود النتيجة التي سوف تحصدها إلى إعادة إنتاج طبقة من الحكام في أفريقيا، كادت تنساهم القارة بعد أن دخل عدد من دولها حزام التعددية والديمقراطية، وتعيد إلى الأذهان شبح ماض أليم، عندما كان الجنرالات يتحكمون وحدهم في الحل والعقد.
جمع آبي أحمد بين الأدوات المدنية والعسكرية، ومنح فرصة للأولى فلم تحقق أغراضه، وخلع رداءها وتدثر بالبزة العسكرية أملا في الوصول إليها، ما يعني أن المنطقة أمام نموذج من القيادات يلجأ إلى الإصلاحات كسلاح لتمرير أجندته، وإذا فشلت ينقلب عليها ويسلك مسار الدكتاتوريات العريقة.
كشفت حرب تيغراي الغطاء عن هذا النوع من القيادات الذي يعيد أمجاد أسلاف حكموا بالحديد والنار، وبات العالم أمام إثيوبيا مختلفة، فإما أن يقبل بها كما هي أو يفكر في وسيلة بديلة للتعامل معها.
سوف يجعل الطريق الصعب الذي تمضي فيه الدولة الإثيوبية العالم أمام رجل شرق أفريقيا المريض، بعد أن كانت هناك تحركات تسعى لتحويلها إلى نموذج واعد يجمع بين الحرية السياسية والرأسمالية الاقتصادية والاندماج الوطني الاجتماعي.