بقلم: محمد أبو الفضل – العرب اللندنية
الشرق اليوم- لو قرأنا هذا العنوان منذ بضعة أشهر لشعرنا أن هناك خطأ سياسيا ارتكبه صاحبه، لكن الآن يمكن استيعابه وفهم دوافعه في ظل مجموعة من التطورات الإقليمية أفضت إلى عدم استبعاد حدوثه وربما تكراره، ما يعني أن أزمة سد النهضة سوف تواجه رياحا مختلفة عما عرفناه خلال الفترة الماضية، والتي وضعت السودان قريبا من إثيوبيا، ثم محايدا ووسيطا، ومتحفظا، ثم رافضا لطريقتها في التعامل مع الأزمة.
يمكن التعرف على أسباب التشدد السوداني والليونة المصرية في الموقف من المفاوضات عبر جملة محددات أدت إلى تغيير في الحسابات الظاهرة، فالخرطوم التي رفضت صراحة الانخراط في محادثات، السبت الماضي، برعاية الاتحاد الأفريقي، تأكدت أنها تدور في حلقات مفرغة، ومن الضروري عدم التمادي في ذلك.
استمد السودان شجاعته في الممانعة من يقينه أن سد النهضة لا يحمل خيرا له، كما جرى الترويج في البداية، بل سوف يقود إلى تكبد أضرار جسيمة، حيث فرضت فترة الارتباك في السياسة الخارجية قدرا من التريث في التعامل مع قوى إقليمية ودولية، وتجنب اللجوء إلى الخشونة السياسية، لأن مقتضيات المرحلة الحالية وتعقيداتها حتمت على السلطة القبض على العصا من منتصفها في عدد كبير من القضايا الخلافية.
تمكنت السلطة الانتقالية من تحقيق إنجازات على مستوى توقيع اتفاق السلام مع الحركات المسلحة، واستكمال الطريق مع الفصائل الرافضة، وترتيب البيت في الداخل بشكل إيجابي، وعادت قيادات الجبهة الثورية إلى الخرطوم للمشاركة في السلطة ومشتملاتها التشريعية والولاياتية، بمعنى تراجعت تأثيرات أديس أبابا على قيادات اتخذت منها مقرا لها، وبالتبعية على مفاوضات السلام.
كما أن السودان قطع شوطا جيدا في تطوير علاقاته مع الولايات المتحدة، وأوشك على غلق ملف وضع اسمه على لائحة الدول الراعية للإرهاب، بموجب تسويات مادية، تفضي حصيلتها إلى تهيئة الأمور للحصول على مكاسب سياسية، فضلا عن التوجه نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل ورهان الخرطوم عليه لتعظيم فوائده.
ناهيك عن الأحداث المشتعلة في إثيوبيا وما تمثله من ضغوط قوية على حكومتها، إذ جعلتها في موقف لا تحسد عليه، وقد لا تستطيع مواصلة الحرب في إقليم تيغراي ومواصلة المعركة القانونية والفنية، وربما السياسية، مع سودان يعاني كثيرا مما تفرزه الحرب من زيادة في أعداد اللاجئين والمشردين إلى أراضيه، وما يمثله ذلك من أزمة إنسانية طاحنة.
منحت هذه التطورات الخرطوم قدرة على تبني موقف أكثر وضوحا مع أديس أبابا، وهي رسالة تتجاوز ملف سد النهضة، حيث توحي بإمكانية أن تقول لا عند حد معين، فالسودان ابتلع تجاوزات مسلحة في جنوبه قامت بها عصابات الشفتة الإثيوبية داخل منطقة الفشقة الحدودية التابعة له تاريخيا، وبدا غير قادر على المواجهة، وكأن أديس أبابا نجحت في السيطرة على مفاتيح القرار والحل والعقد في الخرطوم.
شهدت علاقات السودان بمصر تحولات لافتة في الآونة الأخيرة، انعكست في شكل زيارات ولقاءات وتوسيع لأطر التعاون العسكري والاقتصادي، وهو ما يقود تلقائيا إلى ارتفاع درجة التعاون على الصعيد السياسي، وكانت نقطة الالتقاء الناصعة عند ملف سد النهضة، وكشفت لأي مدى يمكن أن يصل التنسيق بين الجانبين، فالخرطوم بدت قريبة من تبني موقف القاهرة، انطلاقا من مصالحها الحيوية وليس مجاملة للثانية.
يخدم تبادل الأدوار بين مصر والسودان مصالحهما معا ويشير إلى أن الفترة المقبلة قد تشهد تناغما يتخطى سد النهضة فكل طرف يجد في إعادة صياغة العلاقات فوائد يمكن توظيفها لصالحه
جاءت ليونة مصر على خلاف المتوقع، فأن تقبل مواصلة التفاوض في الجولة القادمة وهي التي اشتكت من العقم الذي يخيم على المحادثات منذ فترة طويلة وهددت بالانسحاب منها، فهو شيء يثير الانتباه ويتجاوز تفسيره مسألة الميول المصرية نحو الحذر والتسويات والتفاهمات، ويحتاج إلى قراءة أعمق للمتغيرات الإقليمية، حيث لعبت دورا مهمّا في ابتعاد القاهرة عن اتخاذ موقف مماثل للخرطوم الآن.
في الوقت الذي حاول فيه السودان أن يستثمر بشكل غير مباشر في الحرب الإثيوبية، رأت مصر تحاشي العزف على هذا الوتر لقطع الطريق على خروج الاتهامات من نطاق التلميحات إلى التصريحات بشأن ما يتردد في بعض وسائل الإعلام حول إمكانية استغلال ما يدور من معارك في شن عملية عسكرية لضرب سد النهضة.
إذا اتخذت القاهرة موقفا صارما من المفاوضات في هذه الأجواء ربما تجدها الحكومة الإثيوبية التي تعاني من ورطة الحرب، فرصة لإعادة الترويج لاتهامها بأنها تريد القفز على الأحداث، وتجد فيها مشجبا تعلق عليه الإخفاقات الراهنة.
ولذلك وجدت مصر أن موقف السودان الجديد يكفي في هذه المرحلة، ويؤكد أنها لم تعد المتضررة وحدها، ما يعزز رؤيتها وتحفظاتها على المنهج الذي تتبناه أديس أبابا.
قدم رفض السودان للدخول في مفاوضات بلا سقف زمني أو جدول فني، فرصة ثمينة لمصر، ووضع إثيوبيا بين خيارين غاية في الصعوبة، أحدهما: قبول رؤية الخرطوم التي تنسجم في النهاية عن قصد أو دونه مع موقف القاهرة، والآخر: الإصرار على مواصلة الرفض، فيضطر السودان إلى مراجعة جزء معتبر من علاقاته مع إثيوبيا في وقت حرج للثانية.
في الحالتين تستفيد مصر، فتغيير الموقف يعني التسليم بالتوقيع على اتفاق مُلزم لإثيوبيا يتضمن التحفظات السابقة على عملية الملء والتشغيل وحل النزاعات، وما إلى ذلك من حزمة ليست هناك دواع لسردها، أما الرفض فيعني تثبيت موقف الخرطوم بجوار القاهرة، بما يمنح متانة لخطابها أمام المجتمع الدولي.
يخدم تبادل الأدوار والمقاعد بين مصر والسودان مصالحهما معا، ويشير إلى أن الفترة المقبلة قد تشهد تناغما أكبر يتخطى سد النهضة، فكل طرف يجد في إعادة صياغة العلاقات على قواعد إستراتيجية فوائد جمة له يمكن توظيفها لصالحه، وإنهاء حقب طويلة من الخصومة المستترة، وعدم ربط التقدم والتراجع بالملف الأمني.
تستطيع كل دولة أن تقدم مزايا نوعية، إذا اقتنعتا أن التعاون يجنب كلاهما صدامات لا لزوم لها، ويبقى على السلطة الانتقالية في السودان تثبيت هذه الفكرة، لأن هناك قوى ترى أن إثيوبيا أقرب لها من مصر ولو جارت على بلدها في المياه أو الحدود.
تتطلب هذه العملية معالجة وجهدا مضنيا لتفكيك الحجج التي تستند عليها الفكرة، وتركيبها على أسس تثبت أن ثمة قواسم مشتركة مع مصر تفوق إثيوبيا التي تعاني من اختلالات هيكلية يمكن أن ترشح بروافدها القاتمة على السودان.