الرئيسية / مقالات رأي / دونالد ترامب الأوتوقراطي الأمريكي

دونالد ترامب الأوتوقراطي الأمريكي

بقلم: هشام ملحم – النهار العربي

الشرق اليوم- خلال الأسبوعين الماضيين حطمت الولايات المتحدة يومياً كل الأرقام القياسية المتعلقة بجائحة كورونا، كان آخرها ارتفاع عدد الإصابات بالفيروس يوم الجمعة الى أكثر من 194 ألف إصابة، ووصول عدد المرضى في المستشفيات الى 82 ألف حالة. خلال هذه الفترة فاق عدد الوفيات في البلاد جراء الجائحة عن ربع مليون أمريكي. ومع مرور كل يوم يزداد عدد المدن التي تفرض إجراءات متشددة لاحتواء انتشار الفيروس مثل فرض وضع الاقنعة وحظر التجول في الليل. 

هذه الإجراءات الاحترازية هي للتحضير “للشتاء الداكن” المقبل والذي يتوقع الخبراء في مكافحة الأوبئة أن يحصد عشرات الآلاف من الأمريكيين قبل نهاية السنة. وخلال هذه الفترة القاتمة عزل الرئيس دونالد ترامب نفسه في البيت الأبيض، حيث لا يوجد على برنامجه اليومي أي نشاطات رسمية. فقط مرة واحدة خلال هذه الفترة ناقش ترامب جهود مكافحة الفيروس في مناسبة علنية في البيت الأبيض، قام خلالها بتهنئة نفسه على جهوده في مكافحة الوباء. 

ترامب الذي حوّل البيت الأبيض الى قلعة محاصرة يعمل فيها عدد يتضاءل يومياً من الموظفين، يقضي وقته وهو يجري اتصالات هاتفية مع المسؤولين الجمهوريين عن الانتخابات في بعض الولايات المحورية التي فاز بها الرئيس المنتخب جوزف بايدن، وفي لقاءات مع بعض مستشاريه وأفراد عائلته والمسؤولين في حملته الانتخابية وهو يخطط، والأصح القول وهو يتآمر معهم حول سبل حرمان جو بايدن من انتصاره الكبير، وقلب نتائج الانتخابات رأساً على عقب في محاولة سافرة وغير مسبوقة لتقويض الديموقراطية الأميركية وتقويض إرادة الشعب الأمريكي.

لا يكتفي ترامب بعزل نفسه في البيت الأبيض، بل يواصل الادعاء عبر شبكة تويتر وفي شكل يومي انه هو الذي فاز بالانتخابات وأن الديموقراطيين قد سرقوا انتصاره، ولا يزال يرفض السماح للمؤسسات والأجهزة البيروقراطية التنسيق مع حملة الرئيس المنتخب خلال المرحلة الانتقالية التي تسبق تسلّم بايدن لصلاحياته الدستورية في العشرين من كانون الثاني (يناير) المقبل.

ويستخدم ترامب في هذه الجهود كل الأساليب التي استخدمها وشحذها خلال سنواته الأربع في البيت الأبيض، وأبرزها التضليل، ونشر نظريات المؤامرة، والترهيب والترغيب، والتلويح بوجود مؤامرات ضده تمولها شخصيات يهودية مثل جورج سوروس، وتزوير الانتخابات ضده في المدن التي تعيش فيها أكثرية من الأميركيين من أصل إفريقي مثل ديترويت بولاية ميتشغان واتلانتا بولاية جورجيا، وفيلادلفيا في ولاية بنسلفانيا وغيرها.

لم يحدث في تاريخ الانتخابات الأمريكية أن حاول رئيس خسر معركة التجديد لنفسه لولاية ثانية أن فعل ما يفعله اليوم الرئيس ترامب، الذي يستخدم علناً أساليب الترهيب السافر والتضليل والحديث عن مؤامرات وهمية لضمان بقائه في البيت الأبيض لأربع سنوات إضافية. وخلال الأسبوعين الماضيين وبعد أن أعلنت وسائل الإعلام وغيرها من المؤسسات المعنية بالانتخابات فوز جوزف بايدن، أصبح من الواضح أكثر من أي وقت مضى مدى الضرر الذي ألحقه ترامب بالمؤسسات الديموقراطية، وبالثقافة السياسية والأعراف والتقاليد المعمول بها منذ أكثر من قرنين وتحديداً مسألة الانتقال السلمي للسلطة والتي لم تؤخرها الحروب أو الأزمات الداخلية. ترامب بكل بساطة وبكل صفاقة يتصرف كزعيم أوتوقراطي كما يتصرف الاوتوقراطيون الذين يتلاعبون بالانتخابات في الدول في مناطق عديدة في العالم مثل آسيا الوسطى، والشرق الأوسط وأفريقيا.

ما يجعل ممارسات ترامب خطيرة على الجمهورية الأميركية ومستقبلها، وحتى على السلم الأهلي، هو حصوله على أقل من 74 مليون ناخب، (بايدن حصل على أقل من 80 مليون صوت) وهو رقم قياسي يحصل عليه رئيس مهزوم، ما يعني أن الاستقطابات السياسية والثقافية في الولايات المتحدة وهي على وشك الدخول في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين هي أخطر وأسوأ مما كانت تظنه أكثرية الأمريكيين. ما يجعل اتهامات ترامب لخصومه بسرقة الانتخابات منه خطيرة هو تفاقم ظاهرة الجماعات المسلحة اليمينية والعنصرية والتي تؤمن بتفوق العنصر الأبيض والتي تسمي نفسها ميليشيات، ويزيد عددها عن 500 في البلاد، حيث يقول قادتها إنهم مستعدون للنزول الى الشوارع بأسلحتهم لدعم ترامب. وكان ترامب قد شجع هذه العناصر خلال الأشهر التي أعقبت الاضطرابات والاحتجاجات الشعبية عقب حادثة قتل رجال شرطة بيض للأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد في مدينة مينيابوليس، بولاية مينيسوتا في أيار (مايو) الماضي.

وتعرض ترامب خلال الأسبوعين الماضيين الى سلسلة من الهزائم المحرجة عندما رفضت عشرات المحاكم في أكثر من ولاية الدعاوى والشكاوى والطعون التي تقدم بها فريقه الكبير من المحامين، لأنها خلت من أي أدلة جدية حول حدوث أعمال تزوير واسعة النطاق، أو تلاعب ببطاقات الاقتراع خلال عمليات الفرز، أو وجود بطاقات اقتراع بريدية غير دقيقة. وتركزت جهود ترامب وحملته على ولايات بنسلفانيا وميتشغان وجورجيا وأريزونا ونيفادا، وهي الولايات التي تأخرت فيها عمليات الفرز لبضعة أيام، قبل أن يفوز بها بايدن بمستويات مختلفة. وطالبت حملة ترامب بإعادة فرز الأصوات يدوياً في ولاية جورجيا على سبيل المثال، وهي عملية انتهت يوم أمس الجمعة، حيث صدّق المسؤول عن ادارة الانتخابات في الولاية براد رافينسبيرغر (جمهوري) على فوز جوزف بايدن بالولاية بأكثرية 12,670 صوتاً من بين خمسة ملايين ناخب. وكان قادة الحزب الجمهوري في الولاية ومن بينهم عضو مجلس الشيوخ، كيلي لوفلر، قد طالبوا باستقالة رافينسبيرغر لأنه لم يبدِ ولاء كافياً لترامب. اصرار رافينسبيرغر على إجراء انتخابات نزيهة ورفضه الضغوط التي فرضها عليه الجمهوريون من خارج الولاية بمن فيهم عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ساوث كارولينا ليندسي غراهام المقرب جداً من ترامب الذي اتصل برافينسبيرغر مقترحاً التخلص من بطاقات اقتراع بريدية، عرضه الى تهديدات بالقتل.

يوم أمس الجمعة أيضاً، قام ترامب بخطوة غير مسبوقة حين استدعى عضوين جمهوريين من الهيئة المسؤولة عن التصديق على الانتخابات في ولاية ميتشغان لاقناعهما برفض التصديق على الانتخابات لصالح بايدن. ولكن جهود ترامب اخفقت في شكل محرج حين أصدر العضوان بعد لقائهما بالرئيس بياناً أكدا فيه انهما لم يتلقيا أي معلومات تدعو إلى تغيير نتائج الانتخابات، وأنهما سوف يلتزمان قوانين ولاية ميتشغان حول اختيار الناخبين البارزين وعددهم 16 ناخباً في المجمع الانتخابي. وفاز بايدن بالولاية بـ 154 ألف صوت. وسوف تصدق الولاية على فوز بايدن الاثنين المقبل. كما ستصدق كل من ولايتي بنسلفانيا وأريزونا يوم الاثنين أيضاً على فوز بايدن. هذه الاجراءات الإدارية سوف تقضي عملياً على أي فرص لترامب لتغيير أو قلب نتائج الانتخابات في هذه الولايات.

فوز الرئيس المنتخب بايدن بالانتخابات، لن يقلل من خطورة الانقسامات السياسية في البلاد والآثار السلبية لنظريات المؤامرة على شرعية الانتخابات وصدقية المؤسسات الديموقراطية. وأظهر استطلاع لوكالة “رويترز” قبل يومين أن 52 في المئة من الجمهوريين مقتنعون بأن الرئيس ترامب فاز “بطريقة شرعية” بالانتخابات، كما أعرب 68 في المئة منهم عن قلقهم من “تزوير” عمليات الفرز التي كانت لصالح بايدن. هذه حقائق سياسية لا يستطيع الرئيس بايدن والحزب الديموقراطي تجاهلها. ولكن معالجة الاستقطابات السياسية والثقافية والاجتماعية التي برزت في شكل نافر وخطير في السنة الأخيرة للرئيس ترامب، ووصلت الى شوارع المدن الأميركية في اضطرابات وأعمال شغب واشتباكات عنيفة، والتي فاقمها فيروس كورونا، سوف تتطلب جهوداً ضخمة وطويلة الأمد، وليس من الواضح الآن ما اذا كانت ستنجح. 

ظاهرة ترامب التي عمقت الاستقطابات السياسية الموجودة أصلاً في البلاد، استغرقت سنوات طويلة من التكوين. التخلص من هذه الظاهرة وما تمثله من آفات سياسية وإيديولوجية وموروثات ثقافية، سوف يستغرق ايضاً سنوات طويلة قد تكون مضنية وحافلة بالنكسات. 

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …