BY: The New York Times
الشرق اليوم- أشار الرئيس المنتخب جو بايدن أنه سيبدأ بتحركات سريعة لاستعادة كرامة صورة الولايات المتحدة التي باتت ملطخة للغاية، وسيعيد الاحترام لموظفي أميركا الدبلوماسيين وأجهزة الاستخبارات والدوائر العسكرية، وسيسعى للوصول إلى طرق تعامل تمتاز بسهولة التنبؤ بها، وبالدقة والتعاطف فيما يخص العلاقات الخارجية، وهي رسالة استعادة للمعايير سيتردد صداها على الأرجح في العديد من عواصم العالم، تماماً كما انتشرت بين جمهور الناخبين الذين منحوا السيد بايدن نصراً حاسماً على منافسه دونالد ترامب.
هناك الكثير من المهام التي ستشغل السيد بايدن في أول مئة يوم من ولايته. لقد تعهّد منذ الآن بإعادة الانضمام إلى اتفاق باريس للمناخ وجعل العمل المناخي أمراً جوهرياً في سياسة إدارته، كما أعلن عن نيته استعادة علاقات الولايات المتحدة مع منظمة الصحة العالمية، مشيراً إلى أنَّ بلاده سوف توحّد قواها مع باقي دول العالم لإيقاف هياج فيروس كورونا.
من المتوقع كذلك أن يُنظّم بايدن قمة للديمقراطيات، ويعيد التزام الولايات المتحدة في كشف خروقات حقوق الإنسان أينما كانت، سواء في الصين أو روسيا أو السعودية أو تركيا. في الوقت نفسه، تعهّد بالبحث عن طرق جديدة لإنعاش الاتفاقيات النووية مع إيران، والتوصل إلى اتفاق مع روسيا لتمديد معاهدة ’ستارت‘ الجديدة للحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية. ونأمل أيضاً بأن يُوقف بايدن كل الدعم الأميركي للحرب الفظيعة التي تشنها السعودية على اليمن. تمثل هذه الأمور بالإجمال إشارات مبشرة بعودة أميركا الوشيكة إلى دور عالمي يعكس بشكل أفضل قيمنا التاريخية الحقيقية.
أمّا الفريق الحكومي الذي يبدو أنَّ بايدن يعمل على تشكيله فهو مؤلّف من قدامى المحاربين من الإدارات السابقة وأعضاء شديدي الولاء لمؤسسة السياسة الخارجية. إن استطاع الجمهوريون الحفاظ على سيطرتهم على مجلس الشيوخ، قد تكون خطط السيد بايدن مقيَدة بالحاجة إلى موافقتهم عليها، بينما سينحصر نطاق أعماله الفعلية بما يمكن تحقيقه عبر الأوامر التنفيذية.
وحتى لو كان مجلس الشيوخ خاضعاً لسيطرة الديمقراطيين فذلك لن يعني بأي حال تمرير قرارات تشكّل تغييراً درامياً عن سياق السياسات والاستراتيجيات الأميركية المعهودة. قد يستطيع السيد بايدن تخفيف حدّة الحرب التجارية مع الصين، لكنَّ الخلافات المستمرة على مسائل مثل شبكات الجيل الخامس، أو الحقوق التي تطالب بها الصين في بحرها الجنوبي ستبقى في الواجهة. مهما كان نوع المأخذ الذي يمتلكه الرئيس فلاديمير بوتين على السيد ترامب، فهو لم يكن بالقوة الكافية لإرغامه على رفع العقوبات، ومن المستبعد أن يسعى الديمقراطيون إلى محو الماضي والبدء من جديد فيما يخص العلاقات مع روسيا.
بالكاد استطاعت الصداقة الحميمة بين ترامب وكيم جونغ أون تغيير أي شيء في موقف الولايات المتحدة من كوريا الشمالية، أما تعامل ترامب مع موضوع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني فقد كان منحازاً بالتأكيد، لكن على أي حال، لم يكن هناك أي تحركات نحو إنشاء دولتين لشعبين حتى في السنوات السابقة لرئاسة ترامب، في الواقع، ما من دلائل على اقتراب حدوث أمر كهذا بغض النظر عن اسم الرئيس الموجود في البيت الأبيض أو مكان السفارة الأميركية.
سيسير بايدن على الأرجح على نفس خطى ترامب في الانسحاب من الحروب الأجنبية والتردد في الخوض في صراعات جديدة، رغم أنَّ الأول سيختلف عنه بفروقات بسيطة وسيهتم أكثر بحشد الحلفاء. وفي الوقت الذي لن يقلّد فيه بايدن سلفه ترامب بنهجه التجاري الصفري الذي فرض فيه تعاريف جمركية سواء على الصديق أو العدو، فإنَّ التجارة الحرّة تظل أمراً لا يحظى بشعبية كبيرة بين المصوّتين الديمقراطيين.
بينما سيحتفل حلفاء وأعضاء حلف الناتو بخروج ترامب، فإنَّ الولايات المتحدة على الأرجح ستستمر بالإصرار على أن يدفع حلفاء الناتو حصة عادلة في ميزانية الدفاع المشترك، أما الأوربيون فقد باتوا الآن يدركون أنَّ الولايات المتحدة لم تعد القائد المسلّم به للعالم الحر.
باختصار، لم يعد العالم كما كان عليه في عام 2016، ولا يمكن له العودة إلى وضعه السابق. لقد صارت الصين حازمة بشكل لا يستهان به، وبهذا غدت مواجهة أعمال بكين العدوانية، والاعتراف بمطالبها المحقة، وطلب مساعدتها في احتواء كوريا الشمالية أو خفض انبعاثات الكربون تحتاج سبلاً إبداعية جديدة لتحقيقها. كذلك الأمر بالنسبة للتعامل مع الرئيس اليميني في البرازيل أو الديكتاتور المتشبث بالحكم في فنزويلا، أو التفاوض على زيادة حجم تخفيض الأسلحة النووية الروسية مع الإبقاء على استمرار العقوبات عليها، أو استرضاء إسرائيل وعدد من دول الخليج وإحياء الاتفاقيات في الوقت نفسه مع عدوهم اللدود الإيراني.
نعيش اليوم في عالم جامح يتطلب من أقوى سلطاته الديمقراطية تكيفاً وانخراطاً مستمرين، ولهذا لا يمكن التشديد بما فيه الكفاية على أهمية امتلاك الرؤية والخبرة والمصداقية وحد أدنى من اللياقة عند التعامل مع شؤون العالم. كان منهج ترامب ’أميركا أولاً‘ يعني في البداية وقبل كل شيء التقليل من حجم العلاقات الدولية لتصير بمستوى المراوغة التي يستعملها في صفقاته العقارية أي مبدأ: ما المنفعة التي سأنالها من هذا الأمر؟ إنَّ محادثة ترامب الهاتفية سيئة السمعة مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، تلك التي حشرته في زاوية الاتهام، قد منحت إدارته شعاراً مناسباً تماماً لها: “لكنّي أحتاج منك خدمة”
يمكن فهم الشكوك التي تنتاب الحلفاء حيال انتهاء أسلوب ترامب إلى الأبد أو إن كان سيعود إلى الرئاسة يوماً ما، خاصة مع تمسّك ترامب الفاضح بأمل البقاء في السلطة، لكنَّ التوقعات بأنَّ إدارة بايدن-هاريس ستنهي على الأقل حالة الترنحات المتقلبة والمزاجية التي طبعت السنوات الأربع المنصرمة بدأت بالفعل بنشر الراحة بين الحلفاء الذين عانوا طويلاً من استخفاف ترامب، كما بدأت كذلك بإثارة القلق بين القادة اللاليبراليين الذين استمتعوا للغاية في ظل صداقة ترامب وانطفاء نور المنارة الأميركية.
إنَّ التخلي عن منهج ترامب هو ببساطة أمر ذو أهمية هائلة بالنسبة لأميركا والعالم. لطالما استمدّت الولايات المتحدة قوتها من السلطة الناعمة للديمقراطية والحريات والقيم تماماً مثلما تستمدها من سفنها الحربية وطائراتها المسيّرة، وتلك القوة تتعزز بتحالفات أميركا من خلال الديمقراطية في الشرق والغرب.
سيكون هناك الكثير من الوقت للتمحيص في الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة تنخدع على يدي ترامب، أو إن كان هناك احتمال لعودته. لقد أشار الرئيس المنتخب بايدن إلى نواياه في قيادة أميركا نحو الساحة الدولية من جديد، ومهما كانت هواجس أو ظنون أصدقاء أميركا وحلفائها، فعليهم ألّا يتمهلوا في حشد قواهم معاً للتعامل مع القضايا الحالية – الجائحة العالمية ومستقبل الكوكب ليسا إلا بندين على قائمة جدول الأعمال.