بقلم: أيمن سلامة – سكاي نيوز
الشرق اليوم- في تطور لافت، صرحت يوم الجمعة 13 نوفمبر 2020 ستيفاني وليام مبعوثة الأمم المتحدة إلى ليبيا بالإنابة، أن المُشاركين الليبيين في المحادثات السياسية الجارية بتونس حددوا موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
كما أوضحت وليامز أن الفُرقاء الليبيين اتفقوا في تونس على إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في الرابع والعشرين من ديسمبر 2021، ورحب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بذلك التطور المهم في مَخاض مرحلة ما بعد القذافي، قائلا : “الفرصة متاحة الآن من خلال الملتقى السياسي في تونس لإنهاء النزاع المأساوي في ليبيا”، مشيرا إلى أن التوافق بين الليبيين هو السبيل الوحيد للوصول إلى ذلك الهدف.
تَجدر الإشارة إلى أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية كانت إحدى التوصيات التي نَصت عليها مُخرجات مؤتمر برلين في النقطة السادسة والعشرين، والتي صَادق عليها رؤساء وفود الدول الست عشرة المُشاركة في المؤتمر، وأكدت التوصيات أن نهاية الفترة الانتقالية تكون من خلال انتخابات برلمانية ورئاسية حرة، ونزيهة وشاملة، وذات مصداقية، تنظمها لجنة انتخابات وطنية عليا مستقلة وفعالة.
الشاهد أن ذلك الزخم الإيجابي نتج عن الاتفاق الذي وقعته في الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي اللجنة العسكرية الليبية المُشتركة في جنيف، والذي تضمن العديد من الترتيبات المهمة التي لا غِنى عن تحقيقها حتى تُعقد انتخابات كهذه تضمنتها العديد من الاتفاقيات الدولية بدءا من اتفاق الصخيرات عام 2015 وحتى اتفاق تونس عام 2020، وأهم هذه الترتيبات: “وقف فوري ودائم لإطلاق النار، وإخلاء جميع خطوط التماس من الوحدات العسكرية والمجموعات المسلحة، بإعادتها إلى معسكراتها، بالتزامن مع خروج جميع المرتزقة والقوات الأجنبية من الأراضي الليبية في مدة أقصاها 3 أشهر، وتجميد العمل بالاتفاقيات العسكرية الخاصة بالتدريب في الداخل الليبي، وخروج أطقم التدريب إلى حين تسلم الحكومة الجديدة الموحدة أعمالها”.
ليس خافياً أن مطلب إجراء انتخابات حرة نزيهة لم يعد مطلبا داخليا فحسب، وإنما غَدا مطلباً دولياً يُصر المجتمع الدولي على الوفاء به لكي يتم الاعتراف بالدولة كدولة ديمقراطية يؤهلها نظامها السياسي للحصول على المساعدات الاقتصادية والسياسية والأمنية والتكنولوجية، وهذا يُلقي على عاتق كل دولة مسؤولية أن تضع من الضمانات ما يكفل أن تمارس هذه الانتخابات بحرية ونزاهة، وأن تحترم إرادة الناخبين وصولاً إلى نظام سياسي أقرب إلى المثالية قدر الإمكان، وبما يضمن لهذا النظام الاستقرار والدوام.
ومن نافل القول أن السياق الليبي يعد مثالاً صارخاً للتدليل على أهمية الانتخابات في مختلف الأصعدة من أجل إعادة البناء والحفاظ على اللُحمة الليبية، وصيانة السلم الأهلي في بلد مَكرُوب بحربٍ ضَروسٍ صارت أخبارها وآلامها تتصدر كل مَشهد، وتَسود على كل صعيد سواء في الإقليم أو في الساحة الدولية، فالراسخ أنه لا غنى عن الانتخابات من أجل تدشين عملية الانتقال الديمقراطي الذي تعطًل قِطاره بعد سقوط نظام القذافي منذ ما يُناهز عقدا من الزمان.
جَلي أن الانتخابات تكشف عن المشاركة الشعبية لنشاط المواطنين العاديين بقصد التأثير في عملية صنع القرار الحكومي سواء كان هذا النشاط فردياً أم جماعياً، منظماً أم عفوياً ، متواصلاً أم متقطعاً، سلمياً أم عنيفاً، شرعياً أم غير شرعي، فعالاً أم غير فعال، وتهدف الانتخابات إلى التأثير في انتقاء السياسات وإدارة الشؤون العامة واختيار القادة السياسيين على أي مستوى كان محلياً أم حكومياً، لذلك يربط الفقه الحديث بين الحرية والديمقراطية ويعتبرهما أمرين متلازمين فلا ديمقراطية من دون حرية، ولا حرية من دون ديمقراطية، فالديمقراطية الحقيقية لا يمكن التماسها إلا عن طريق تمكين المواطن من المساهمة والمشاركة بصفة مباشرة وفعلية في إبداء آرائه، وصنع قرارات السلطة العامة .
أَصل المفكر الفرنسي “روسو” Rousseu بحق للاستشارة الشعبية باعتبارها الوسيلة الناجعة لتحقيق الديمقراطية لأنها تسمح بإشراك الفرد في تسيير شؤون الحكم والسياسة، بصفة مباشرة ومن دون أي حاجة لأي وساطة أخرى، وسواء تَعلقت هذه المشاركة باختيار ممثلي الشعب (الانتخابات) أو بالفصل في مصير المواثيق اللازمة لحياة الشعب (الاستفتاء)، فالاستشارة الشعبية ما هي إلا الفرز النهائي لمشروعية الدولة، وضِمن هذا المنظور لا يمكن للديمقراطية المباشرة أن يكون لها وجه آخر غير الاستشارة الشعبية، واعتبر برادت Berdate بأنه لا يوجد شيء أهم في النظام الديمقراطي من الانتخاب، لذا فقد أصبح الانتخاب يمثل كلمة مرادفة للسيادة الشعبية أو بالأحرى للديمقراطية بمدلولها السياسي، ذلك أن هذه الأخيرة تقتضي مشاركة الشعب في الحكم من خلال اختيار من يمثله في تسيير المؤسسات الدستورية .
جَليٌ أن عقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية في ليبيا يأتي في خِضم مسار التحول الديمقراطي ” الدمقرطة ” الذي ترسخت أركانه ، وعَلَت أعمدته ليس فقط منذ بدايات تسعينات القرن الماضي في دول شرق أوربا السابقة، لكن ساعدت الانتخابات التعددية في إعادة تشكيل المشهد السياسي في القارة الإفريقية بعدة طرق، من خلال وضع قواعد جديدة للعبة، إثر إطاحة أكثر الطغاة عُنفاً في إفريقيا، والأمثلة التي تُضرب في ذلك الصدد: عيدي أمين دادا في أوغندا، وبوكاسا في إفريقيا الوسطى، ومنغيستو في إثيوبيا، وموبوتو في زائيري السابقة، فأكدت التجارب المهمة المشار إليها أطروحة “الدمقرطة عن طريق الانتخاب” السائدة في العديد من الدوائر.
كشف الإرث التاريخي المعاصر لعمليات التحول الديمقراطي في عدد من الدول الإفريقية التي اكتوت بنيران الحروب الأهلية أو ضاقت علقم النظم الاستبدادية عن أن الانتخابات في إفريقيا تجمع بين عدد قليل من الجهات الفاعلة من ناحية، غالباً من دون مشاريع سياسية مميزة، إن لم يكن لاغتنام الفرصة لتوطيد أو الحصول على منصب من الريع والهيبة الاجتماعية، وناخبون آخرون يفتقرون إلى المعلومات وبالتالي لديهم خيارات سياسية محدودة، وهناك انفصال بين الوقت الانتخابي والتوقيت الحكومي والتشريعي وعندما يحين وقت التصويت، يشعر الناخبون بأنهم أسياد اللعبة، لكنهم حكام ليوم واحد فقط وهو يوم الانتخاب الذي يعدونه عرسا ديمقراطيا وحالما ينتهي التصويت مع الوعود التي سبقته، يلاحظون أن النواب المنتخبين ينطلقون وأن المصلحة العامة تنقلب حسب الاحتجاجات.
تعكس الانتخابات بصدق التداول السلمي للسلطة على جميع الأصعدة، ولكن الحال ليس كذلك في القارة التي ابتليت بكثير الانقلابات العسكرية في العقود الثلاثة الأخيرة، ففي نهاية عام 2019، كان هناك 14 رئيس دولة إفريقية في السلطة لأكثر من عشرين عامًا، وغالبًا ما تتمسك بالسلطة نفس النخبة السياسية التي هيمنت على الحياة السياسية، وبينما تتميز القارة بشبابها، لا تزال الطبقة السياسية مدفوعة من قبل كبار السن، ولا يوجد مكان في العالم توجد فيه الفجوة بين متوسط عمر المواطنين وعمر حكامهم 34 عاما كما هو الحال في إفريقيا.
يُؤدي الإخفاق في إدارة العملية الانتخابية دائماً إلى عدم ثقة الجمهور والإحباط وحتى العنف، وإذا كان الاقتراع الناجح يمكن أن يهدئ ويوحد أمة، فإن دولة أخرى ذات نتائج متنازع عليها يمكن أن تقسمها بوحشية، وتذخر القارة السوداء بالأمثلة الصارخة في هذا الصدد، سواء في كوت ديفوار في عامي 2000 و 2010، وكينيا في 2002 و 2008، وغانا في 2008، وزيمبابوي في 2008، والغابون في 2010، وجمهورية الكونغو الديمقراطية في 2011، وأوغندا في 2011، في جنوب السودان منذ عام 2013، في بوروندي في عام 2015 أو مؤخراً في نيجيريا في عام 2019، لذلك وبالإشارة للمخاض الليبي العسير الخاص بالتحول الديمقراطي ، يبدو جَليا الباعث الرئيسي على طول الفترة التحضيرية التي تسبق عقد الانتخابات المزمعة في التوقيت المشار إليه.
تُشكل الضمانات المعاصرة للعملية الانتخابية تحديا للاستحقاق الانتخابي في ليبيا ، ويبدأ إعمال هذه الضمانات من لحظة بدأ الحملة الانتخابية وما يرافقها من إجراءات للترشيح ، و ما يتضمنه يوم الاقتراع من فعاليات، ولغاية اللحظة التي يعلن فيها انتهاء عملية التصويت، فلضمان نزاهة الانتخابات وصدق تعبيرها عن الرأي العام يجب العمل على كفالة المساواة في استخدام وسائل الإعلام من جانب المرشحين والأحزاب، فضلاً عن حياد السلطة الإدارية التي تتحكم في تنظيم العملية الانتخابية، ومشروعية النفقات الانتخابية التي يتحملها الحزب أو المرشح خلال الحملة الانتخابية، و إعداد نظام قانوني محكم للترشيح.
صفوة القول، آن الأوان للشعب الليبي المكروب أن يهنأ برغد العيش، والأمن من الخوف، وحفظ السلم، وستكون الانتخابات من دون شك إحدى الأدوات الفاعلة نحو إعادة بناء الدولة في ليبيا، وستلعب منظمة الأمم المتحدة دورا مهما في هذا الشأن كما فعلت في تجارب ناجحة سابقة.