بقلم: تشنغ لي
لم يسبق أن أولت بكين مثل هذا الاهتمام الشديد بنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية. إذ يدرك القادة الصينيون أن المنافسة ستحدد العلاقات الأمريكية الصينية بغض النظر عمّن يشغل البيت الأبيض. لكنهم يعتقدون أيضاً أن انتصار نائب الرئيس السابق جو بايدن على الرئيس دونالد ترامب يوفر فرصة لوقف – أو على الأقل إبطاء – مسيرة البلدين المقلقة نحو المواجهة.
تدهورت العلاقات بمعدل سريع للغاية خلال رئاسة ترامب. وكانت الحرب التجارية أبرز مثال على الخلاف، لكن التوترات الاستراتيجية الأكبر زادت أيضاً من مخاطر نشوب صراع. صعق وابل اللوم من جانب إدارة ترامب والتصريحات العنصرية العلنية والسياسات التي تهدف إلى الفصل والخطاب الداعي إلى تغيير النظام العديد من المسؤولين في المستويات العليا من الحزب الشيوعي الصيني. ولا غرابة أن المزاج السائد على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية في أعقاب الانتخابات الأمريكية هو شعور بالراحة والتفاؤل، على الرغم من أن وجهات النظر حول ترامب بين عامة الناس ليست موحدة بأي حال من الأحوال. استحوذ “ميم” شهير على الإنترنت على حماس الجمهور لرئاسة بايدن، وأعاد تسمية المدينة المحرمة في بكين باسم “مدينة بايدن”. (نسبة إلى Forbidden “المحرمة” و For Biden ” لـ بايدن”(
ولكن يمكن أن يتغير مزاج التفاؤل بسرعة. فقبل أربع سنوات فقط، تلقت الصين أخبار انتخاب ترامب بحماس مماثل. حيث اعتبر العديد من القادة الصينيين ترامب رجل أعمال يمكنهم إنجاز الأمور معه. لكن ثبت أن ذلك كان تفكيراً مليئا بالأمل. ومؤسسة السياسة الخارجية الصينية متخوفة ولكن متفائلة بحذر بشأن علاقات أفضل مع إدارة بايدن. ومع ذلك، لا تزال العديد من الظروف التي شكلت سياسة ترامب تجاه الصين قائمة، ولن تكون إعادة العلاقات بين أعظم القوى في العالم سهلة.
مشكلة ترامب
تاريخياً، تجنب القادة الصينيون خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية اقتراح أي تفضيل لمرشح معين. وكانت الرواية الرسمية القائمة منذ أمد طويل هي أن “الصين لا تتدخل أبداً في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة”. لكن القيادة الصينية كانت متشائمة بوجه عام بشأن آفاق تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة طالما كان ترامب يترأسها. وعلى الرغم من أن بعض صانعي القرار الصينيين اعتقدوا أن الفوضى والتضخيم المصاحب لولاية ثانية لـ ترامب ستقوي الصين، فقد شهدوا أيضاً كيف أن السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي التي لا يمكن التنبؤ بها تدفع كلا البلدين إلى حافة الصراع.
وكانت تصرفات إدارة ترامب تجاه تايوان مصدر قلق خاص للصينيين. فمع إقرار الكونغرس الأمريكي لقانون السفر التايواني عام 2018 وقانون تايبيه عام 2019 -وهما مشروعا قانونين لتعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة وتايوان وقّع عليهما ترامب ليصبحا قانوناً- تخشى بكين من أن واشنطن تتجه نحو الاعتراف بتايوان كدولة مستقلة.
وأدت تصرفات الإدارة وخطابها على هذه الجبهة إلى زيادة حدة الكراهية تجاه ترامب داخل قيادة الحزب الشيوعي الصيني، وعززت موقف المسؤولين الصينيين الحريصين على اتخاذ نهج عدائي تجاه الولايات المتحدة.
وتعتقد بكين أن إدارة ترامب سعت إلى هزيمة الصين بنفس الطريقة التي هزمت بها الولايات المتحدة الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة. حتى أن بعض المسؤولين في إدارة ترامب، بما في ذلك وزير الخارجية مايكل بومبيو وكبير المستشارين التجاريين بيتر نافارو، دعوا إلى تغيير النظام في الصين. ونتيجة لذلك، لم يكن لدى الرئيس الصيني شي جين بينغ وقيادة الحزب الشيوعي الصيني أي أوهام حول إمكانية التعايش الهادئ مع إدارة ترامب الثانية والانسجام معها. وخلال احتفالات أكتوبر في بكين بالذكرى السبعين للحرب الكورية، حثّ شي الجيش الصيني على الاستعداد لنزاع محتمل مع الولايات المتحدة، حيث قال إن الصين سوف “تستخدم الحرب لمنع الحرب”.
وعد بايدن
يعلم الزعماء الصينيون أن عِداء الولايات المتحدة تجاه الصين لا يقتصر على إدارة ترامب. إذ إن الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء وجهوا انتقادات شديدة لبكين، ودعوا إلى فصل سلاسل التوريد الأمريكية عن الصين. ولكن في الوقت نفسه، فإن الكثير من المسؤولين الصينيين لا يعتقدون بوجود إجماع مُناهض للصين في واشنطن. وقد استحوذت إحدى الأحداث الجديرة بالملاحظة خلال مناظرة نائبي الرئيسين على انتباه صناع الرأي في بكين، وذلك عندما لم يتمكن نائب الرئيس مايك بنس ولا عضوة مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا كامالا هاريس من تقديم إجابة واضحة حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تَعُدّ الصين منافساً أم خصماً أم عدواً. ويبدو أن ذلك يؤكد عدم وجود إطار استراتيجي للعلاقات الأمريكية-الصينية في واشنطن.
كما أن بايدن دائماً ما كان يصف سياسة ترامب تجاه الصين بأنها فاشلة، ما يدلّ المسؤولين الصينيين على أن الإدارة القادمة لن تتبنى جميع مواقف ترامب الصدامية، بما في ذلك تحقيق الفصل بين الولايات المتحدة والصين. وقد سُرًّ المحللون في مؤسسة السياسة الخارجية الصينية برؤية أن فريق بايدن للسياسة الخارجية يضم العديد من المخضرمين الذين يتمتعون بسمعة طيبة بدبلوماسيتهم العقلانية.
وقد لاحظ الكثيرون في الصين والولايات المتحدة أن بايدن وشي كانا يتمتعان بعلاقة عمل ودودة وطويلة الأمد خلال فترة توليهما منصب نائب الرئيس في بلديهما. ووفقاً لدانييل راسل، المسؤول الكبير السابق في مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس باراك أوباما، فإن بايدن وشي التقيا ثماني مرات على الأقل، وأمضيا ما يقرب من 25 ساعة معاً في اجتماعات فردية على امتداد 18 شهراً في عامي 2011 و 2012. وقد تحدث بايدن بقسوة عن شي والحزب الشيوعي الصيني خلال المناظرات الرئاسية، لكن المسؤولين الصينيين يدركون أن هذه التصريحات ما هي سوى خطاب للاستهلاك المحلي، ولا تُنذر بسياسة بايدن الخارجية.
وعلى نطاق أوسع، أدرك مراقبو الشأن الأمريكي في الصين أن نظرتهم القديمة تجاه الجمهوريين، التي تعود إلى عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، فتعتبرهم أكثر وداً وسهولة في التعامل من الديمقراطيين لم تعد صحيحة. إذ يشير الباحثون الصينيون إلى أن جميع أعضاء الكونغرس الخمسة عشر في فرقة العمل الخاصة بالصين -وهي مجموعة معروفة بنهجها المتشدد تجاه بكين- هم من الجمهوريين؛ وأن 229 نائباً ديمقراطياً في مجلس النواب صوتوا في سبتمبر لصالح قرار في الكونغرس يُدين جميع أشكال التمييز ضد الصين، بينما لم يؤيد القرار من الجمهوريين سوى 14 نائباً (وعارضه 164)؛ وأن الكثير من استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة تُظهر أن الجمهوريين أكثر عداء للصين من الديمقراطيين.
كيفية إعادة ضبط العلاقات
لكن حتى إذا كانت بكين أكثر استعداداً للعمل مع إدارة أمريكية ديمقراطية، فإن إعادة ضبط العلاقات الثنائية بدرجة ذات معنى سيكون مهمة صعبة. إذ يميل الزعماء الصينيون إلى عزو تدهور العلاقات الأمريكية الصينية بالكامل إلى رغبة إدارة ترامب في احتواء صعود الصين. ومن جهتها، لا تعترف بكين بالمخاوف الأمريكية المشروعة بشأن ممارسات الصين غير العادلة على الصعيدين الاقتصادي والتكنولوجي، وسلوكها العدواني في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. أما على الجانب الأمريكي، فيشكّل انتقاد الجمهوريين للحزب الشيوعي في إدارة ترامب والكونغرس -فضلاً عن عداء الجمهور العام للصين- حاجزاً كبيراً أمام محاولات الإدارة الجديدة للتقارب. بالإضافة إلى أن احتمال تشكيل مجلس شيوخ يسيطر عليه الجمهوريون بعد الانتخابات يجعل تغيير المسار أكثر صعوبة. ويُدرك المسؤولون الصينيون أن الانقسام السياسي الخطير الذي كشفت عنه نتيجة الانتخابات -في ظل استقطاب شديد في الولايات المتحدة- سيُجبر بايدن على تهدئة التوترات المحلية، ويمكن أن يحرمه من رأس المال السياسي لإجراء تغيير كامل في سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين. وعلاوة على ذلك، يخشى الزعماء الصينيون أنه خلال محاولة رأب الصدع في الانقسامات الحزبية، يمكن أن ترى إدارة بايدن في سياسة الصين العدوانية وسيلةً لإيجاد أرضية مشتركة مع الجمهوريين. وفي هذه الحالة، يمكن أن تستمر المواجهة بين البلدين -أو حتى تتسارع- بدلاً من إفساح المجال لإحداث توازن أكثر استقراراً بين التعاون والمنافسة.
وستواصل إدارة بايدن بالتأكيد التعبير عن مخاوفها بشأن انتهاكات الصين لحقوق الإنسان في هونغ كونغ والتيبت وشينجيانغ. وربما يجعل بايدن هذه الانتقادات أكثر قوة، ويضمها إلى المهمة الأخلاقية الأوسع للدفاع عن حقوق الإنسان وتحقيق العدالة العرقية في الوطن. ومن المرجح أن يكون أكثر فاعلية مما كان عليه ترامب في تسخير القوة الناعمة الأمريكية في التواصل بين الولايات المتحدة والشعب الصيني. وبالطبع، من غير الوارد أن تلبي بكين مطالب الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في هذا الشأن، إذ إن السلطات الصينية تنظر إلى الاضطرابات في هذه المناطق الواقعة في محيطها على أنها تهديد للسيادة الوطنية للبلاد وسلامة أراضيها واستقرارها الداخلي. وبالتالي فإن سلوك بكين في هذه المناطق المضطربة لن يخضع للتفاوض.
تدرس القيادة الصينية كل هذه المسارات المحتملة لسياسة بايدن تجاه الصين، ويبدو أنها تحتاط في رهاناتها على الإدارة القادمة. حيث ستكون بكين حريصة على إعادة التواصل مع الولايات المتحدة في مجالات عديدة، حيث شهدت سنوات أوباما الثماني ما يصل إلى 105 حوارات ثنائية برعاية الحكومة حول مواضيع تشمل القيادة النسائية، والتعليم في مرحلة الطفولة المبكرة، واستكشاف الفضاء، والجرائم الإلكترونية، وتغيّر المناخ. بينما اختصرت إدارة ترامب هذه القنوات إلى أربعة خلال العامين الأولين للإدارة، ثم أوقفتها بالكامل.
وتماشياً مع أجندة بايدن للسياسة الخارجية، ستولي الصين اهتماماً خاصاً للعمل التعاوني في قضايا الصحة العامة العالمية (لا سيما المعركة المشتركة ضد جائحة كوفيد 19)، وتغيّر المناخ، ومنع انتشار الأسلحة النووية، ومكافحة الإرهاب، والأمن الإلكتروني، والاستقرار الاقتصادي والمالي على الصعيد العالمي. وفي الصيف الماضي، حدد يانغ جيتشي -الذي يُعدّ أحد كبار الدبلوماسيين الصينيين- هذه الموضوعات باعتبارها مجالات للتنسيق والتعاون الوثيق بين الولايات المتحدة والصين. وبالإضافة إلى ذلك، رأى إمكانية التعاون مع الولايات المتحدة في معالجة التحديات الجيوسياسية في أفغانستان وشبه الجزيرة الكورية والشرق الأوسط.
ومع ذلك، تعتقد بكين في الوقت نفسه أن الانتعاش الاقتصادي في الصين، وطريقة معالجتها لجائحة كوفيد 19، واستقرارها النسبي اجتماعياً وسياسياً، ونفوذها المتنامي دولياً، يمنحها قوة إضافية في العلاقة الثنائية. وربما تستوعب القيادة الصينية مطالب الولايات المتحدة في مجالات معينة، لكنها ستظل على الأرجح حازمة وغير متهاونة تجاه أي شيء يمس المصالح الجوهرية المُعلنة للصين، والمتمثلة في مطالبتها بالسيادة على تايوان والحفاظ على حكم الحزب الشيوعي الصيني.
الأمل بالمصالحة
لا شك في أن التوترات مع الصين ستستمر بينما تدرس إدارة بايدن المجالات التي ستتعاون فيها مع بكين وأين ستتنافس معها. لكن بعض المفكرين الصينيين النافذين يرون في فوز بايدن إمكانية لإيجاد علاقة أكثر إنتاجية، حيث جادل شي ينهونغ -أستاذ الدراسات الأمريكية في جامعة رينمين ومستشار مجلس الدولة (الذي يُعدّ أعلى جهاز حكومي)- مؤخراً بأن بايدن سيوفر الاستقرار والقدرة على التنبؤ في سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين.
ولكن من وجهة نظر شي، فإن نافذة الفرصة لوقف التصعيد بطريقة “واحدة بواحدة” مع إدارة بايدن ستكون قصيرة. حيث أن نفوذ الصين المتزايد على المسرح العالمي، والبيئة السياسية الداخلية المتقلبة في الولايات المتحدة، سيجعلان إصلاح العلاقات الثنائية أمراً صعباً. ويُصرّ شي على أنه لا ينبغي أن تفوّت بكين وواشنطن الفرصة الثمينة المتاحة في الأشهر المقبلة لمراجعة العثرات الماضية وإعادة ضبط العلاقات. ويبتعد شي بعض الشيء عن الخط الحزبي في رغبته في التغلب على عقلية “المجموع الصفري”، ما يعكس حسن النية لدى العديد من المثقفين والمواطنين الصينيين تجاه الولايات المتحدة، وتجاه إدارة بايدن القادمة على وجه الخصوص. والوقت وحده سيوضح كيف يمكن أن تسترشد قرارات القيادة الصينية بوجهات النظر هذه.
المصدر: Foreign Affairs