بقلم: هيثم الزبيدي – العرب اللندنية
الشرق اليوم– الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما رئيس باطني. تعلم مبكرا أن يكون بوجهين. ربما لأسباب عرقية ترتبط بأنه من أب أسود وأم بيضاء. هذه طريقة للحماية، تترافق مع البعض ما يسمونه في الغرب بـ”شخصية جوز الهند”. المظهر أسود والداخل أبيض. من الصعب الحكم على أوباما مما يظهره.
لكن أوباما أفصح في الجزء الأول من مذكراته عما في داخله. يعتبر في كتاب مذكراته “أرض الميعاد” الذي يصدر قريبا أن وصول دونالد ترامب لكرسي الرئاسة هو انتقام الحزب الجمهوري من إيصال الحزب الديمقراطي لسياسي أسود إلى البيت الأبيض. يقول وفق مقتطفات نشرتها مجلة “ذي أتلانتيك” في عددها الأخير “لكأن مجرد وجودي في البيت الأبيض أثار ذعرا عميقا، إحساسا بأن النظام الطبيعي شهد بلبلة”، مضيفا “هذا تحديدا ما أدركه دونالد ترامب حين بدأ يروج لمزاعمه بأنني لم أولد في الولايات المتحدة وأنني بالتالي رئيس غير شرعي”. وأضاف “إلى الملايين من الأميركيين الذين روعهم وجود رجل أسود في البيت الأبيض، وعد (ترامب) بإكسير لمخاوفهم العرقية”.
لكن أوباما مخطئ أو تعمد الخطأ. الجمهوريون هم من أوصل رئيسا أسود إلى الحكم. هم من مهد الطريق مبكرا للسود في المناصب الرفيعة. العسكري الأسود كولن باول بدأ مستشارا للأمن القومي في عهد رونالد ريغان ونائبه جورج بوش الأب. هذه مرتبة رفيعة سبقه إليها هنري كيسنجر وتبعه برنت سكوكروفت. من المؤكد أنها أول علامة فارقة لكنها كانت البداية. جاء تعيين كولن باول رئيسا للأركان المشتركة مقدمة لتقديمه بطلا لحرب تحرير الكويت.
كولن باول أدار حرب التحالف الثلاثيني ضد العراق. كان ضابطا مخضرما شهد هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام، وكان أول شرط له عندما التقى الرئيس بوش للتخطيط لتدمير القدرات العراقية أولا ثم تحرير الكويت هو أن يكون مطلق الصلاحيات. ما كان يريد تكرار تجربة “الحرب السياسية” التي تقيد “الحرب الحقيقية” كما حدث في فيتنام. وقد شهدنا النتيجة. تدمير كامل للبنية التحتية للعراق وتدمير جزئي للجيش العراقي. هذه سميت “عقيدة باول” العسكرية القائمة على سحق الخصم تماما بأقل الخسائر.
كولن باول، مع نورمان شوارزكوف القائد الميداني للمعركة، هما بطلا الحرب. الأول أسود مفوه وذكي. والثاني أبيض صلف وتكتيكي. اختفى شوارزكوف وبقي باول.
ثم جاء عهد جورج بوش الابن. اختير باول لثالث أهم منصب في الدولة وزيرا للخارجية. واستهلكه نائب الرئيس ديك تشيني كواجهة للترويج، بالأدلة والأكاذيب، لغزو العراق. أدرك باول أنه أصبح مشهورا للأسباب الخطأ. توارى، ولكنه سلم الراية لسياسية سوداء مغمورة سرعان ما أصبحت وجه الإدارة الأميركية الخارجي. أصبحت كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي ثم وزيرة الخارجية.
رايس مثال للجائع للسلطة. كتبت ورقة بحثية عن الاتحاد السوفياتي اشتهرت من خلالها، ثم فتحت واشنطن الأبواب لها. في العرف السياسي يسمون الموظف السياسي المطيع “السيد نعم”. كانت هي “السيدة نعم”. كل ما طلبه الرئيس جورج بوش الابن ونائبه ديك تشيني كان ينفذ. وبقية فشل سياسات بوش الابن أكثر من معروفة، خصوصا في فوضى العراق.
من خلال الجمهوريين تم تقديم الكثير من السياسيين السود، لكن باول، الذي طرح اسمه يوما مرشحا محتملا للرئاسة بدوره، ورايس كانا الأبرز. تعود الأميركيون على وجه أسود كسياسي رفيع يحتل الشاشة. هذا ليس شيئا سهلا في الولايات المتحدة المحكومة بشاشات التلفزيون، خصوصا عندما يستمر لسنوات طويلة. هذا شعب كان يميز بالقوانين عنصريا بين السود والبيض لحد وقت قريب مضى، ولا تزال شرائح منه تتعامل مع السود كمشاريع جريمة تنتظر الحدوث. حملة #حياة_السود_مهمة تذكر الجميع بأن التغيير في التشريعات لا يعني بالضرورة انقلابا في منظومات القيم التي تحكم المجتمعات.
هوليوود تلقفت الأمر
تلقفت هوليوود الأمر. ما كانت تمر فترة من دون إنتاج درامي تلفزيوني أو سينمائي يقدم رئيسا أسود. عدة أفلام قديمة، لكن في فيلم “صدمة عميقة” عن مصير العالم أمام كويكب سيضربه كان الرئيس هو الممثل الأسود مورغان فريمان. هو من يحذر الناس من القيامة القادمة وهو من يبشرهم بالنجاة.
استمر الأمر. في مسلسل “24”، الذي كان من أشهر المسلسلات في مرحلة تحول التلفزيونات إلى المسلسلات الطويلة والمنتجة بعقلية سينمائية، كان الرئيس أسود (قدمه الممثل الأسود دينيس هيسبرت) ورئيس موظفي البيت الأبيض أخاه أسود (قدمه الممثل الأسود ديفيد وودسايد) والذي أصبح رئيسا بعد اغتيال أخيه الرئيس. نحن هنا نتحدث عن مواسم متعاقبة لأشهر مسلسل استمر تقريبا طوال عهد بوش الابن.
علقت الصورة في عقل المشاهد. الرئيس بوش الابن محاط بقيادات من السود في الحقيقة، والممثل كيفيرسثرلاند (بدور محوري في مسلسل “24” عن الأمن القومي الأميركي) لا يثق إلا بالرئيس الأسود. هناك تفاصيل كثيرة أخرى على الشاشة ليس هنا مجال للحديث عنها بالطبع. وصلت المبالغة في تقديم الأسود بصورة استثائية لدرجة أن فيلم “بروس جـلّ جلاله” قدم الممثل مورغان فريمان كذات إلهية متجسدة على الأرض.
الأميركي أصبح متهيئا لتقبل الشخصية، أحقيقية كانت أم متخيلة دراميا.
تركة ثقيلة لبوش الابن
كانت الرئاسة الثانية لبوش الابن كارثية. فوضى العراق أنهت كل إحساس بالنصر. نزفت الميزانية وعبرت كلفة الحرب الترليون دولار. نفط العراق لعشرات السنين ما كان سيعوض. والحلفاء تركوا الولايات المتحدة تدفع والأعداء تفرجوا عليها تنزف.
كان الديمقراطيون ينتظرون فرصة أضاعها آل غور نائب بيل كلينتون. وكان التغيير ضروريا. الجمهوريون مهدوا الطريق “بصريا” لكن الديمقراطيين كانوا مستعدين سياسيا.
باراك أوباما الغامض كان الشخصية المناسبة. ونجحت المحاولة وأصبح رئيسا.
كان وصول أوباما للرئاسة يعالج واحدة من عقد أميركية لا يتوقف الآخرون في العالم من تعيير الولايات المتحدة بها. الرئيس يجب أن يكون أبيض. ها هو رئيس أسود. الرئيس يجب أن يكون رجلا. كانت هيلاري كلينتون على دكة الاحتياط تنتظر دورها. والرئيس يجب أن يكون بروتستانتيا. لم تستمر رئاسة جون كينيدي الكاثوليكي في الستينات طويلا فقد تم اغتياله. وها هو جو بايدن الكاثوليكي على دكة الاحتياط الثانية. لا أعرف إن كان الحديث عن رئيس أميركي يهودي في قادم الأيام واردا. هم أقلية حقيقية وإن كان نفوذهم كبيرا في الولايات المتحدة.
الآن يتشكى الرئيس الباطني أوباما من قلق البيض الذي أوصل شخصية مثل دونالد ترامب إلى الرئاسة. كان، مثل طبعه دائما، قد ترك الحكم للحظة الأخيرة. عبارات الاتهام كتبها في الجزء الأول من مذكراته بعد أن تأكد أن جو بايدن قد فاز وأن ترامب انتهى. تسلل، كما كان يصف نفسه عندما يريد أن يدخن سيجارته اليومية اليتيمة، إلى ركن وكتب العبارة ونسي أن خطط وسياسات الحزب الجمهوري “الأبيض” كانت السبب في وصوله، تلك الذكية منها أو الخرقاء التي صنعها جورج بوش الابن صناعة بيده.