بقلم: علي الصراف – العرب اللندنية
الشرق اليوم– الديمقراطية نظام فاسد، إلا أنها في أبهى صورها في الولايات المتحدة. نحو 150 مليون ناخب اقترعوا لانتخاب رئيس وأعضاء في مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ، وغيرهم من القيادات المحلية. وتأخر إعلان النتائج بسبب الفارق الضئيل نسبيا بين الشخصيتين الرئيسيتين في الانتخاب، الرئيس الجمهوري دونالد ترامب ومنافسه الديمقراطي جو بايدن.
نظريا على الأقل، يمكن للفائز أن يتقدم إلى المنصب بفارق صوت واحد. وتجربة العام 2000 بين المرشح الجمهوري جورج بوش الابن ونائب الرئيس الديمقراطي آل غور، انحسر فيها الفارق إلى 537 صوتا في ولاية فلوريدا، أدت إلى منح أصوات المجمع الانتخابي الـ29 في الولاية إلى بوش، وهذه الأصوات هي التي منحته الرئاسة التي بقي فيها ثماني سنوات.
هذا يعني أن كل صوت مهم. ومثلما امتثل أكثر من 100 مليون ناخب لإرادة 537 شخصا في ذلك العام، فإنهم يمكن أن يمتثلوا لإرادة ناخب واحد.
هذا وجه غير مألوف لمن يعتقدون أن الديمقراطية هي “حكم الأغلبية”. لأنها في الواقع حكم احترام الأقلية. ونحن نفشل في ممارسة الديمقراطية لأننا لا نفهم هذا الواقع.
واحد من أكثر نماذج الديمقراطية إثارة للغثيان، هو الديمقراطية في العراق، أو تونس، حيث “تتصرف” أحزاب “الأغلبية” بمصائر الجميع ولا تخدم أحدا سوى أولئك الذين يتربعون على عروش الفساد وكراسي النفوذ.
والولايات المتحدة، كما ظهرت نتائج انتخاباتها، في أقصى حالات الانقسام، وفي أعلى مستوياته أيضا.
الرئيس ترامب لم يخسر بسبب تراجع شعبيته. بالعكس، لقد حصد عددا من الأصوات أكبر مما حصده في العام 2016. ولكن بايدن تقدم عليه بعدد أعلى من الأصوات.
مقدار هائل من الحماس والاندفاع هو الذي جعل الأميركيين يصوتون بكثافة. والذين دعموا ترامب من قبل، عادوا ليدعموه من جديد، ولكن الفارق تركز في زيادة عدد الناخبين لصالح الطرف الآخر، وهو ما انتهى إلى أعلى مستوى للتصويت في تاريخ الولايات المتحدة.
هذا الانقسام، هو جوهر الديمقراطية. ونحن لا نفهمه أيضا، كما لا نعرف أن الديمقراطية هي ليست غلبة أحد على أحد. لأنها في الواقع فن إدارة الانقسام بالذات.
الفائز لا يمكنه أن يكون فائزا، إذا خرج للناس ليقول لهم: سوف نلقي الطرف الآخر في البحر. سوف نذيقهم مر العذاب. أو سوف نريهم من الويلات ما لم يروه منذ مقتل الحسين حتى الآن، كما تفعل ميليشيات الولي السفيه في العراق، أو كما يفعل حزب النهضة في تونس. وهو حزب متخصص في نشر ثقافة النبذ والإقصاء والتكفير، ومرت من تحت أنفه أعمال لم تعرفها تونس على مر العصور.
الانقسام لا يشكل خطرا إنه دافع من دوافع الوحدة لأنه يجري حول قضايا عملية تتطلب معالجات وهو ليس كمثل الانقسام الطائفي أو حتى الأيديولوجي الذي لا يمكن حله حتى يوم القيامة
لكي تكون فائزا في الولايات المتحدة يجب أن تجعل الطرف الآخر يفهم أنك سوف تحكم لصالحه، وليس ضده. وأن تقدم البرهان العملي على ذلك. لماذا؟ أولا، لأنك ستعود لتطلب صوته مرة أخرى. وثانيا، لأنك إذ تحكم بلدا، فذلك يعني أن تحكم في موارده المادية والبشرية، جمعا لا فرقا.
بينما تذهب ديمقراطيات الغثيان إلى أن تحكم حسب الطائفة أو العقيدة الأيديولوجية، أو المحسوبيات الشخصية، أو الانتماء الحزبي.
لا الجمهوريون في الولايات المتحدة، ولا الديمقراطيون، فعلوا ذلك، ولا في أي مرة من المرات التي عادوا فيها إلى الحكم. ولأنهم احترموا إرادة ومطالب وطموحات ناخبي الطرف الآخر. يفوزون أو يخسرون، فقد ظل بوسعهم أن يعودوا، ويعودوا مرة بعد أخرى.
بينما أحزاب الطوائف والعقائد والميليشيات، عندما تصعد حكما، بسلم الديمقراطية، فإنها تركله، لكي لا يصعده أحد آخر. ولا تكون هناك عودة حقيقية أخرى إلى الناخبين. وسيقال لك على الفور، إنهم يحكمون باسم الله. وهو ما يعني “من أنت لكي نعود إليك؟”.
ما جاء ملفتا تماما في الانتخابات الراهنة، هو أن الرئيس ترامب خسر أمام منافسه، إلا أن النواب الجمهوريين وشيوخهم لم يخسروا. وهؤلاء عندما فازوا، كلٌ في ولايته، فإنهم ظلوا يخدمون ناخبيهم، وفقا للمعايير ذاتها التي يخدم بها الرئيس الفائز شعبه.
الانقسام، لا يشكل خطرا. وهو لا يؤدي إلى التفكك. إنه دافع من دوافع الوحدة. وهذا أمر آخر لا نفهمه. لأن الانقسام يجري حول قضايا عملية تتطلب معالجات، وهو ليس كمثل الانقسام الطائفي أو المذهبي، أو حتى الأيديولوجي، الذي لا يمكن حله حتى يوم القيامة.
نحن نمذهب الأحزاب. ونحول حتى الأيديولوجيات إلى طوائف. كما نحول الطوائف إلى “شعوب شقيقة”.
هل لم تسمع في حياتك، قول تابع من أتباع الولي السفيه يستخدم مصطلح “أخوتنا السنة”. إنه يقصد “الشعب الشقيق الذي يعيش، معنا، بكل أسف، وفي الجوار”.
توجد فوارق أيديولوجية بين الجمهوريين والديمقراطيين. إلا أنها ليست فوارق طائفية. كما توجد مشكلات عنصرية في ذلك البلد، إلا أن الجميع يفخرون بأنهم أميركيون. وفي الواقع، فإنهم يكتسبون الحماية والضمانات من كونهم “أميركيين” وليس من كونهم “شيعة” أو “إخوانا”. وما من أحد يفكر بالانفصال.
الانفصالية هي نكران للمواطنة. كما أنها نكران للوطن. والانتماءات الطائفية، أو الأيديولوجية التي تتحول إلى انتماءات طائفية، كلها انتماءات انفصالية.
يعاني الرئيس إيمانويل ماكرون الأمرّين من مواطنيه الفرنسيين المسلمين، لأنهم ينتمون إلى “عقيدة” أكثر مما ينتمون إلى وطن، بل ولأنهم يحولون العقيدة إلى عدو للوطن وللمواطنية نفسها.
ينشأ في ذهن ماكرون تناقض لا يستطيع حتى أن يفك ألغازه. كيف يمكن لمواطن (وهو يظن أنهم مواطنون ويعاملهم على هذا الأساس) أن يتنكر لقيم الشراكة الوطنية؟
شيء عجيب بالنسبة له. ولكن لو أصبح ماكرون ساكنا من سكنة العراق (لا يوجد مواطنون) أو تونس فإنه سرعان ما سوف يحل اللغز. يكفي أن يتأمل في صور نوري المالكي وعادل عبدالمهدي أوعلي خامنئي، وسيفهم على الفور، كيف تتحول العقيدة إلى شر مطلق عندما تستعدي العقائد الأخرى، فتكفرها وتحاربها وتنبذها في بلد لم يعد بوسعه أن يكون وطنا وإنما مجرد زريبة لقطعان ولي من أولياء السفاهة والانحطاط في تركيا أو إيران.
حتى الأحزاب الشيوعية في عالمنا العربي “تأطفت”، وصار يمكن لحزب مثل الحزب الشيوعي العراقي، على سبيل المثال، أن يدخل زعيمه “العملية السياسية” بوصفه “شيعيا”، أو أن يدخل في تحالف مع المشروع الفكري لمقتدى الصدر! وهو ما كان يفترض أن يجعل فلاديمير إليتش لينين زعيما لموكب من مواكب اللطم على الحسين في كربلاء. وكان يفترض بهذا الانحطاط أن يؤسس لـ”ديمقراطية”، إنما بعقول مريضة.
حتى فساد الديمقراطية في الغرب، في إطار اعتبارات أخرى، يظل قادرا على أن يقدم نماذج إنسانية معقولة. وهذا ما تجسده اليوم الانتخابات الأميركية بكل اختلاط معانيها ونتائجها. وتلك الديمقراطية إنما تكتسب القدرة على البقاء وتدوير الزوايا، لأنها تظل تستند إلى أسس جديرة بالاحترام.
أما ديمقراطيات الطوائف والعقائد فليس من العجب أنها تثير مشاعر الغثيان في الفساد نفسه.