BY: Ishaan Tharoor – The Washington Post
الشرق اليوم- في 2019، تجمع علية القوم في مؤسسة الحكم في واشنطن في عشاء فاخر نظمته رابطة المراسلين لدى البيت الأبيض، حيث استمعوا لرون تشيرناو، المؤرخ الرئاسي الشهير، وهو يلقي الكلمة الرئيسية في الحفل، التي وصف خلالها الاضطراب الذي شهدته فترة الرئيس دونالد ترامب بأنها “لحظة انقلاب للأمور رأسا على عقب”، وبأنها “فاصل سريالي في الحياة الأمريكية”.
كانت كلمات تشيرناو صدى لما بات دافعا لدعم منافس ترامب، المرشح عن الحزب الديمقراطي جو بايدن، وخاصة في أوساط مجموعة صغيرة، وإن كانت متنفذة، من الجمهوريين الذين يقولون: “لا لتكرار ترامب”، والذين يتواجدون بشكل رئيسي داخل العاصمة الأمريكية، ولديهم اعتقاد بأن الترامبية كانت بالفعل مجرد “فاصل”.
تعتبر هذه الرؤية سياسات ترامب المحلية داخل البلاد وسياساته الوقائية خارجها “غير أمريكية”، وترى أن لغته الفجة وميوله الذاتية عبارة عن انحرافات، وإدارته الضعيفة واللامبالية لجائحة كورونا عبارة عن خيانة لتركة من الزعامة الحازمة داخل البيت الأبيض في خضم الأزمات.
في المقابل، مثّل بايدن إمكانية استعادة الأعراف المقدسة، والعودة إلى الكياسة وروح الإجماع في السياسة الأمريكية. على الأقل، تلك كانت هي الفكرة. ولكن ما أن اقتربنا من منتصف ليل الأربعاء حتى اتضح أن نصف أمريكا تقريبا غير مقتنعة. صحيح أن بايدن حصد من الأصوات أكثر مما حصده أي مرشح رئاسي أمريكي في التاريخ، وما زال متوقعا له أن يفوز بالكلية الانتخابية، حسبما تشير الأرقام الواردة من حفنة من الولايات التي تدور فيها المعارك الأخيرة، إلا أن ترامب، كما حصل في انتخابات 2016، فاق بأدائه التوقعات ومجمل الاستطلاعات، إذ صوت له من الأمريكيين هذا العام أكثر بكثير ممن صوتوا له في الانتخابات التي أوصلته إلى السلطة قبل أربعة أعوام، رغم أنه جاء من خارج المؤسسة وكخصم لها. هذا بالإضافة إلى أن آمال الديمقراطيين في توسيع قبضتهم على مجلس النواب وكسب مجلس الشيوخ لصالحهم قد خابت.
لقد فهم المعلقون الأجانب ذلك؛ فقد كتب كليمنز ويرجين، مراسل الشؤون الخارجية في صحيفة داي فيلت الألمانية: “على عكس ما توقعه الكثيرون، لم يرفض الأمريكيون الترامبية بقوة، حتى لو انتهى الأمر بفوز بايدن في الانتخابات”.
بدلا من ذلك، قدم البلد المستقطب نتيجة مستقطبة؛ فقد بث ترامب الرعب في قلوب العديد من الصحفيين السياسيين المخضرمين، حينما بادر إلى إعلان فوزه في الانتخابات في الوقت الذي كان واضحا فيه بما في الكفاية أن ملايين الأصوات كانت ما تزال تنتظر العد، وأنه لم يكن لديه حسبة رياضية يمكنه الركون إليها. ثم راح هو وأنصاره يزعمون طوال يوم الأربعاء أن خصومهم يسرقون منهم الأصوات، بينما كانت السلطات الانتخابية في مختلف الولايات تحرص على عد كل واحدة من أوراق الاقتراع.
يقول الصحفي دان بالز، في صحيفة الواشنطن بوست: “أثبت ترامب تارة أخرى أنه لا يعبأ بالدستور أو بالاستقرار، أو بخير هذا البلد، أو بأي شيء من هذا القبيل. لا يهمه إلا ذاته، وأن يستمر في الاحتفاظ بالسلطة التي يمسك بها الآن. ولذلك راح يولول: “تزوير، تزوير” رغم عدم وجود أي دليل على أن شيئا من ذلك قد وقع”.
وكتبت سوزان بي غلاسر، في نيويورك تايمز تقول: “ها قد أفرز تشكيك ترامب المتواصل في مؤسسات حكمنا الأساسية وفي نظامنا الانتخابي النتيجة التي يرغب بها، حتى لو لم يفز ويعود إلى الحكم لأربعة أعوام أخرى، والنتيجة هي أن الولايات المتحدة قوة عظمى ممزقة من الداخل لم تعد تثق في نظامها الديمقراطي”.
في أوروبا، عبر كبار المسؤولين عن حزنهم لهذا الاضطراب الذي تشهده الانتخابات الأمريكية، وحذروا من احتمال الانتهاء إلى وضع “متفجر”. حتى أن مراقبي الانتخابات من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا -الذين طالما دعمت واشنطن عملهم في الديمقراطيات الناشئة- أصدروا بيانا، ذكّروا فيه السلطات الأمريكية بالالتزام الأساسي الذي يفرض عليها عد جميع الأصوات. وجاء في البيان الذي أصدره مايكل جورج لينك، نيابة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا: “إن الادعاءات التي لا أساس لها من الصحة بوجود أوجه خلل منتظمة، وبالذات تلك الادعاءات الصادرة عن الرئيس الحالي، بما في ذلك ما صدر عنه ليلة الانتخابات، من شأنها أن تقوض ثقة الجمهور بالمؤسسات الديمقراطية”.
إلا أن الحقيقة التي لا مهرب منها، وكما تجلى في نتائج الانتخابات، هي أن الترامبية ستبقى تيارا قويا في السياسة الأمريكية. وهي شبيهة بالتوجهات السياسية في أجزاء أخرى من العالم، حيث شهدنا امتطاء بعض الرجال الأقوياء لظهر الديمقراطية. لقد حظيت بدعم واضح وكبير تلك القومية الديماغوجية من النمط الذي يمارسه الرئيس، بما في ذلك حملاته اللامبالية في كل سنة من فترة وجوده في الرئاسة، وتبنيه دون خجل أو وجل لأساليب ورسائل مثيرة للشقاق.
كما كتبت زميلتي مونيكا هيسي: إن “تفوق ترامب في أدائه بإجراءات انتخابية لا حصر لها. لن تكون هناك انهيالات ساحقة، فقط صرير حذاء وإطباق فك، وربما معارك قضائية في المحاكم، سواء كسب أم خسر، لن تنتهي الترامبية إلى سلة مهملات التاريخ، بل ستبقى معنا، وستعشعش في كل أثاثنا”.
بالفعل، لا يستبعد أن تكون الترامبية هي المحدد لمعالم سياسة التيار اليميني في الولايات المتحدة لسنين قادمة، في إشارة إلى تركة الأرجنتين من القومية الشعبوية، غرد دان سلاتر، مدير مركز وايزر للديمقراطيات الناشئة في جامعة ميتشغان قائلا: “قد تصبح الترامبية هي النسخة الأمريكية من البيرونية، لديها قدرة عالية على الاستنفار، وقدرة عالية على الاستقطاب، قد لا تكون دائما في السلطة، لكنها لا تختفي بتاتا”.
بالنسبة للمراقبين من الخارج، تعتبر الترامبية دليلا على انحطاط أمريكا. ما الذي يعنيه بالنسبة لبلد تميز بعقود من الانتقال السلمي للسلطة والاستقرار في الحكم، بلد ساعد في نشر الكثير من أعرافه إلى أماكن كثيرة أخرى حول العالم، أن يواجه مثل هذه الأزمة المحتملة؟
توم ماكتيغ، في ذي أتلانتيك يقول: “اليوم، وبينما تعيش واشنطن في حالة من الفوضى، وما يزال مستقبلها السيادي مجهولا، ما يتعرض للخطر فعلا هو الفكرة التي قامت عليها أمريكا، وهي الفكرة ذاتها التي بات جزء كبير من العالم يركن إليها ويتبناها”.
وورد في مقال افتتاحي لموقع ستاف، وهو أكبر موقع إخباري في نيوزيلندا، ما يلي: “عندما تحدث بايدن عن أن الانتخابات إنما هي معركة في سبيل روح أمريكا، كان يقصد الإشارة إلى عدم ملاءمة ترامب لمنصب الرئاسة، وهو ما ثبت بالفعل من خلال إخفاقه في التعامل مع جائحة كوفيد-19، ناهيك عن الشعارات والمواقف العنصرية وغير ذلك من الإهانات المتعددة التي صدرت عنه بحق النظام الديمقراطي. فإن رغبة هذا العدد الكبير جدا من الناخبين في الولايات المتحدة في أن يحكمهم شخص مثل ترامب لأربعة أعوام أخرى، لأمر يوجب علينا جميعا إعادة النظر في فرضياتنا”.
إن عدم اليقين الذي لا يبرح بشأن التصويت، كما كان مستشرفا، يُنظر إليه بابتهاج في موسكو وفي بيجينغ وفي طهران. حيث كتب المشرع الروسي فايتشيسلاف نيكونوف، الذي رحب بانتصار ترامب في انتخابات 2016، عبر حسابه على فيسبوك: “نتيجة الانتخابات هي أسوأ ما يمكن أن يحدث لأمريكا. فأيا كان الذي سيكسب المعارك القانونية، لن يعتبره نصف الشعب الأمريكي رئيسا شرعيا. دعونا نخزن كمية كبيرة من الفُشار”.
وفي تصريح لصحيفة غلوبال تايمز المملوكة للدولة في الصين، قال زين قيانغ، نائب مدير مركز الدراسات الأمريكية في جامعة فودان بشنغهاي: “إن التربة التي بإمكانها إخراج مرشح رئاسي مثل ترامب ما زالت موجودة في الولايات المتحدة، وبعد أربعة أعوام، يمكن للجمهوريين أن يتقدموا بمرشح آخر شبيه بترامب، وحتى الديمقراطيون بإمكانهم أن يكون لديهم ترامب خاص بهم”.
ترجمة: عربي 21