بقلم: محمد قنفودي – هس برس
الشرق اليوم- لسنوات ظل الاهتمام المعرفي للباحثين في مقاربة ظاهرة التطرف والإرهاب مركزا على البنيات الثقافية والاجتماعية والتنموية والدينية والإيديولوجية المسهمة في تشكل التعصب الديني وانتقاله من مستوى التمثل والتنظير إلى الفعل والممارسة، وأيضا دور خطاب الكراهية واللاتسامح للآخر، فضلا عن رفض ممكنات التعايش المشترك واعتماد جهاز مفاهيمي/ نظري وآخر مسلكي يعتمد على التكفير واللاإيمان والتبديع في تأجيج الصراع وتوطين التطرف.
ومع أن هذه العوامل كلها ما زالت صالحة لفهم وتفسير هذه الظاهرة؛ فإنه وجب النظر أيضا إلى تطرف آخر مضاد، يمكن اعتباره خلاصة لأحد أوجه العلمانيات المتعددة في فرنسا، وهي العلمانية المتطرفة أو العلمانية الاستئصالية التي تنظر إلى مظاهر الدين في المجتمع والفضاء العام باعتباره تهديدا لقيمها وناخرا لحضارتها وكتضاد مع مبادئها وتقدمها الثقافي.
هذا الأنموذج تعزز حضوره في فرنسا بفعل الدعم السياسي الذي أصبح يحظى به من الساسة وجزء مهم من “المثقفين” وأجهزة الإعلام المختلفة؛ في حين نسجل تراجع بقية النماذج العلمانية ليس على مستوى التبني المعياري لها، ولكن لخفوت صوتها مقابل العلمانية الاستئصالية، والتي تقوم فلسفتها على الوحدة مقابل التنوع، والمعيرة الثقافية مقابل التعدد.
هذه العلمانية، في نظري، تقتات من بنية ذهنية مشكلة لها وموجهة لسلوكها، ولا بأس من أجل فهمها الرجوع قليلا إلى تاريخ الصراع الديني/ المذهبي الذي نشأ في أوروبا، وكانت فرنسا أحد مسارحه، والذي ينتج لنا خلاصة مفادها: [أن الصراع كان قائما بين أطراف سعوا إلى تأكيد هيمنتهم الهوياتية والسياسية، ولم تكن حربهم البينية نتاج صراع ديني بقدر ما هو سياسي ناتج عن البنية العقلية والذهنية التي تحكمت في أطراف الصراع في حينه، أي سيطرة “العقل الشمولي” بتعبير أركون على البنية الذهنية للأفراد، والذي يقوم على رفض الآخر المختلف والنظر له كتهديد داخلي والإيمان بالوحدة الثقافية والدينية والسياسية، أي رفض كل مظاهر التنوع].
ويبدو أن هذا العقل الشمولي هو نفسه من يشكل البنية الذهنية للعلمانية الاستئصالية في فرنسا، وذلك في تعاطيها مع موضوع المسلمين الفرنسيين أو المهاجرين؛ وهو ما يشكل الإسلاموفوبيا المستشرية في هذا النموذج، مع أن فرنسا لم تكن دائما أنموذجا يحتذى به في تعاطيه مع الآخر خاصة المهاجرين، ويمكن تأكيد ذلك في ردود عديدة مع موجات الهجرة التي شهدها البلد (أوروبا الشرقية، الأفارقة، الدول المغاربية..)، [أو ربما وبعيدا عن التحليل التاريخي والثقافي، قد يكون التعاطي مع الآخر مبنيا على أسس اقتصادية كحالة أقليات دينية لها وضع مميز نتيجة مساهمتها في الاقتصاد الوطني].
وعموما، فيمكن القول بأن التطرف المضاد الذي تسعى إليه العلمانية الاستئصالية، والأشكال الاستفزازية التي تقوم بها، والتي أصبحت أحد مظاهرها المسلكية الطبيعية، لا يمكن أن تسهم بأي شكل من الأشكال في محاربة التطرف والإرهاب في البلد؛ بل ستزيد من إذكاء نار الحقد والكراهية، خصوصا في الجيلين الثالث والرابع من المهاجرين الذين يعايشون ازدواجية هوياتية، فرنسية علمانية ومسلمة عربية، وهم مادة خام للتحول نحو الراديكالية، ليس بالضرورة عبر القنوات الكلاسيكية للانتماء التديني، وإنما كردة فعل على تأكيد الهوية وإثبات الذات.
من الأكيد أنه لا يمكن تبرير أي تطرف أو تعصب أو سلوك إرهابي مهما كانت أسبابه، والواجب إدانته ورفضه وتوفير إمكانيات الحد من انبعاثه أو انتشاره، وهي دعوة طرحناها في أكثر من مقال قبل هذا، وفي المقابل يجب أن نتعلم جميعا سبل العيش المشترك، وأن نؤمن بأن التعدد والتنوع مصدر للازدهار والرخاء والوحدة وليس للتهديد والانقسام.