بقلم: عبد الرحمن شلقم – الشرق الأوسط
الشرق اليوم- صحيفة «شارلي إيبدو» بعد نشرها لكاريكاتير يسيء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، لم تثر غضب المسلمين فقط لكنها فتحت جدلاً واسعاً داخل فرنسا حول حدود (العلمانية) التي قننتها الدولة سنة 1905 وسرى فعلها في التشريعات التي طالت كل مناحي الحياة. عندما صدر قانون العلمانية كان المجتمع الفرنسي يختلف في تكوينه السكاني عما هو عليه اليوم. كانت بلدان المغرب العربي كلها باستثناء ليبيا تحت الاحتلال الفرنسي وكذلك بلدان عديدة في أفريقيا. في الحرب العالمية الثانية جندت فرنسا أعداداً هائلة من أبناء مستعمراتها للقتال مع قوات فرنسا الحرة بقيادة الجنرال شارل ديغول ضمن قوات الحلفاء ضد المحور. كثير من هؤلاء المقاتلين استقروا بفرنسا، وبعد استقلال البلدان المستعمرة تدفق مئات الآلاف من هذه البلدان نحو فرنسا واستقروا بها ومع مرور الزمن صاروا جزءاً من المجتمع الفرنسي وحملوا جنسيته. كان ذلك تغييراً كبيراً في بنية المجتمع الفرنسي ولكن لم يتنبه السياسيون وعلماء الاجتماع إلى أثر هذا التغير وحدوده وقوته على كل ما في المجتمع وخاصة منظومة القيم التي لها فعل في أنماط السلوك الاجتماعي العامة. القادمون من مجتمعات أرهقها الاستعمار وجثا فوقها التخلف، حملوا معهم قيماً أخلاقية صنعها الدين والموروثات الاجتماعية التاريخية، وشكلت أنماط حياتهم في الوطن الجديد الذي تأسس على منظومة قيم مختلفة، ظواهر بعضها يتناقض بل يتصادم مع تلك القيم التي حملها القادمون معهم إلى بلدهم الجديد. المجتمعات الزراعية والرعوية التي صنعت لها بيئتها نسيج علاقاتها القبلية والعائلية والقيمية، ستجعل القادمين منها يجدون أكثر من جدار يسد عملية القبول والاندماج في مجتمع صناعي له تكوين مختلف جداً في العلاقات بين أعضائه.
تقنين الاختلاف في المجتمع الواحد شرط أساسي للحفاظ على ترابطه وترسيخ وحدته على قاعدة المواطنة والمساواة أمام القانون وجعل القيم التي يحملها القادمون من مجتمعات أخرى إضافة واقعية تثري ما عند المجتمع المستقبل للقادمين من بلدان أخرى مختلفة. المجتمعات الأوروبية ذاتها تعيش اختلافات بل خلافات حول العديد من القضايا المتعلقة بالدين والأخلاق. الإجهاض والزواج المثلي لا تتقبله المجتمعات الأوروبية التي تتبع المذهب الكاثوليكي، في حين تراه المجتمعات البروتستانتية من زاوية أخرى وتعتبره خياراً فردياً ويدخل في دائرة الحرية الشخصية.
لمسلمون الذين أصبحوا مواطنين فرنسيين، حملوا معهم أخلاقاً ليس من السهل زوالها من الضمائر والعقول، والحلال والحرام قوتان ترسم خطوط خرائط السلوك الفردي والجمعي، وليس من السهل إبطال مفعوليهما في الحياة الخاصة والعامة. الدين الإسلامي له أركانه وكتابه المقدس وشرائعه التي تحكم العلاقات بين الناس، كالزواج والطلاق والميراث، وله قواعده في التحليل والتحريم، وله رموز لا يمكن القبول أو التسامح مع التطاول عليها وخاصة نبي الإسلام محمد، في حين نُشرَت في العالم المسيحي كتب وأُنتجت أفلام تسيء للمسيح عيسى بن مريم عليه السلام ولم يُسمح بنشرها أو عرضها في العالم الإسلامي، لأن المسلمين يعتبرون المسيح رمزاً دينياً لهم لا يقبلون التطاول عليه أو المساس به.
العلمانية في فرنسا بدأت مبكراً قبل أن تصاغ في تشريعات قانونية سنة 1905. كان عصر التنوير حقبة المعركة الفكرية مع هيمنة الكنيسة على الحكم تحت نظرية التفويض الإلهي الذي يجعل الحكام أتباعاً للكنيسة، ولهذا حملت العلمانية عنوان فصل الدين عن السياسة، ولكن الحياة التي لا تتوقف عن التطور والتغير، تطرح وبدون توقف أسئلة تتجاوز ذلك العنوان (فصل الدين عن السياسة) الذي لا يعني فصل الدين عن الحياة، بمعنى أن الحياة لها روافد متجددة، بما فيها الأخلاق التي كانت موضوعاً محورياً في الفلسفة الإغريقية والإسلامية والأوروبية ولا تزال مادة للمفكرين والدارسين في كل العالم. حرية التعبير عن الرأي حول أي موضوع، سواء كان سياسياً أو اجتماعياً أو دينياً، لا قيود عليها، ولكن الأخلاق أمر آخر. صحيفة «شارلي إيبدو»، لم تناقش الإسلام وتنتقد أو تقيم ما فيه من قضايا دينية أو فكرية، بل تطاولت على أخلاق النبي محمد بما لا يليق، ولو فعلت ذلك مع أي شخص عادي لطالها القانون. هذا أمر متفق عليه في كل أوروبا. إهانة المعتقدات الدينية تدخل في الدائرة ذاتها وإن كان انتقادها أو تقييمها أمراً لا يعترض عليه القانون.
في سنة 2011 أدانت محكمة نمساوية كاتبة أساءت للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأيدت محكمة الاستئناف الحكم، وقالت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تتخذ من مدينة ستراسبورغ الفرنسية مقراً لها، إن الإساءة للنبي محمد لا تندرج ضمن حرية التعبير، وإن إدانة المحكمة النمساوية لها لا تعد انتهاكاً لحرية التعبير، ولا يمثل حكم المحكمة خرقاً للفصل من الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان. وقد صدر هذا القرار ضد الكاتبة النمساوية يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) سنة 2018.
لا يمكن تجميد فاعلية القيم في زمان أو مجتمع، فهي تنمو وتتطور بما تقتضيه متغيرات الحياة التي محورها الإنسان الذي لا تتوقف أنماط سلوكياته ووعيه عن الحركة الدائمة.
في فرنسا هناك اليوم مراجعة لما يتعلق بالتمويل للمؤسسات الدينية وإعادة تأهيل أئمة المساجد، لكن هناك ما هو أهم من ذلك بكثير، وهو مراجعة منظومة القيم في مجتمع متعدد الديانات، وبالتالي متعدد الأخلاق في منظومة قيم متنوعة، ويمكن أن تشكل إثراء وإضافة لقوة المجتمع الفرنسي الحديث الذي شهد تطوراً وتغيراً بحكم ما حدث في تكوينه السكاني.