الشرق اليوم– كشفت الاشتباكات بين الأرمن والأتراك في فرنسا منذ أيام عن تنافس وصراع نفوذ بين الجاليتين في أوروبا وخارجها، لإظهار صواب موقف كلا الطرفين في معارك إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان.
وتحول هذا التنافس -كما هو الأمر في فرنسا- إلى استعراض قوة من خلال المناوشات، خاصة من طرف الأتراك، ما دفع السلطات الفرنسية إلى اتخاذ قرار يقضي بحظر تنظيم الذئاب الرمادية الذي يتبنى العنف لفرض شعارات تؤمن بـ”تفوق العرق التركي”.
وتستثمر الجالية الأرمنية، المنتشرة في أوروبا وفي دول شرق أوسطية مثل مصر وسوريا ولبنان، في تحركها الاعتراف الدولي بعدالة قضيتها تاريخيا عبر إدانة المجازر العثمانية التي ارتُكبت بحقها.
ومع بداية المعارك في ناغورني قره باغ لجأ الأرمن إلى التظاهر لإدانة هجوم أذربيجان من ناحية، ومن ناحية أخرى للتعريف بمشروعية مطلب استقلال الإقليم، الذي يمثل فيه الأرمن أغلبية كبيرة. وتوافد ممثلو الجالية من مختلف دول أوروبا للقيام بوقفة احتجاجية أمام مبنى المفوضية الأوروبية في بروكسل للتنديد بالهجوم، وخاصة الدعم التركي المباشر لباكو ودعمها بمرتزقة سوريين مدربين شاركوا في الحرب الليبية وقبلها في الحرب السورية.
ويتهم الأرمن الاتحاد الأوروبي بالتقصير، ما عدا فرنسا التي ظلت محافظة على تفهمها لمطالبهم. وزاد الدعم الدبلوماسي الفرنسي هذا العام لتزامن معارك ناغورني قره باغ مع التوتر التركي الفرنسي في المنطقة وتبادل الاتهامات بين الرئيسين إيمانويل ماكرون ورجب طيب أردوغان.
ولم تقتصر التحركات على التظاهرات والشعارات المنددة بالدور التركي، فقد هبت الجالية الأرمنية في مناطق مختلفة من العالم إلى تقديم التبرعات ومد يد المساعدة لأشقائها خاصة بعد أن أدت المعارك إلى تشريد المئات وتهجيرهم خارج المدن.
وفي لبنان قدمت الجالية الأرمنية، التي تضم قرابة 14 ألف لبناني وتعد من أكبر جاليات أبناء الأرمن على مستوى العالم، التبرعات والمساعدات بالرغم من الأزمة التي يعيشها لبنان والتي تضرر منها الجميع بمن فيهم الأرمن.
ويقول بعض أفراد الجالية إن عشرات اللبنانيين من أصل أرمني غادروا بيروت إلى يريفان كمتطوعين في القتال، ومنهم أسماء معروفة مثل كيفورك هادجيان مغني الأوبرا المشهور.
ويعكس تحمّس الأرمن في الشتات للتبرعات والتطوع لفائدة بلدهم الأم رغبة في إحياء قضيتهم وإظهار تمسكم بهويتهم وأرضهم وعدم نسيان الماضي الأليم في الصراع مع الأتراك، سواء تحت مظلة الدولة العثمانية أو خلال مواجهة الأذريين من أصول تركية، وصولا إلى الدفاع عن إقليم ناغورني قره باغ وتحدي رغبة أنقرة في التمدد في القوقاز على حساب مصالح الأرمن القومية.
وفي مقابل دفاع الأرمن عن عدالة قضيتهم، تعمل الجالية التركية في أوروبا على إفشال تحركاتهم وأنشطتهم الساعية لترك قضيتهم حية لدى الرأي العام الدولي.
ويظهر التحرك التركي، الذي يتسم بالحدة والعنف، خاصة في فرنسا التي توجد بها أكبر جالية أرمنية. وقد وصل الأمر إلى حد تدنيس نصب للمذبحة الأرمنية في فرنسا وكتابة شعارات على واجهته مؤيدة لتركيا ورجب طيب أردوغان ولتنظيم الذئاب الرمادية المتشدد، ما استدعى تدخل الشرطة الفرنسية.
ويقول مراقبون إن الجالية التركية باتت تسيطر عليها أقلية راديكالية معادية لأوروبا، وللأرمن والأكراد بصفة خاصة، وأن صعود هذا الخطاب المتشدد ارتبط بسيطرة أردوغان على السلطة منذ كان في منصب رئيس وزراء، وأن تلك الأقلية بات همها التسويق لشعارات أردوغان وخططه في قبرص وشرق المتوسط وناغورني قره باغ وليبيا بقطع النظر عن تعارض ذلك مع انتماء الجالية إلى الدول المستضيفة وواجباتها في ذلك.
وأشار هؤلاء المراقبون إلى أن أردوغان اخترق الجالية من خلال تمويل مراكز ومساجد وحولها إلى ورقة ضغط وابتزاز لأوروبا، وظهر ذلك خلال حملته لإنجاح التعديلات الدستورية في 2017 ومحاولة الترويج لها في حملات استعراضية رغم معارضة الأوروبيين لذلك.
وحذروا من أن تلكؤ الأوروبيين في مواجهة الأقلية الراديكالية المهيمنة على الجالية التركية قد يشجعها على المضي أكثر بحثا عن نفوذ أقوى، حاثين على الحذو حذو فرنسا في حل “الذئاب الرمادية” ذات الخطاب العنصري الذي يؤمن بتفوق العرق التركي وأولوية مصالحه.
وأسس هذه الحركة الضابط في الجيش التركي ألب أرسلان توركش، المعروف بأفكاره العنصرية وإيمانه بنظريات الأعراق المتفوقة، في منتصف ستينات القرن الماضي في كنف حزب الحركة القومية، شريك أردوغان الحالي في الحكم، مستندا إلى أفكار القوميين المتطرفين الأوائل، لينقل أنشطته بعد ذلك من تركيا إلى الخارج.
وتبنى التنظيم منذ تأسيسه توجهات ضد الأكراد والأرمن واليونان والعلويين والمسيحيين، ونفذ اغتيالات في حق مفكرين وقادة سياسيين ورجال دين مسيحيين وزعامات من قوميات مختلفة.
المصدر: العرب اللندنية