الشرق اليوم- خلطت تصريحات، وُصفت بـ«الحادة»، أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أوراق مفاوضات «سد النهضة» بين مصر وإثيوبيا والسودان، بعد فترة جمود، أظهرت عجز الاتحاد الأفريقي عن تسوية النزاع، الدائر منذ عقد. وجاء حديث ترمب، عن احتمالية «تفجير» مصر للسدّ الإثيوبي، بمثابة مُحرك جديد للمفاوضات، التي استؤنفت بعد ثلاثة أيام فقط، وإن كانت بمعطيات مغايرة. إذ عبرت واشنطن صراحة عن تفهمها للموقف المصري، وإن اختلف المراقبون حول تفسير ذلك الدعم، وما إذا كان «ضوءاً أخضر» لضربة عسكرية مصرية، أم مجرد تهديد لإثيوبيا ودفعها لتوقيع اتفاق، أم «تصريحات انتخابية» لترمب.
وتنظر مصر لـ«سد النهضة» باعتباره «تهديداً وجوديّاً»، حال لم يتوصل إلى اتفاق ينظم عملية ملء وتشغيل السد. وبينما تبرّر إثيوبيا تشييد السد على الرافد الرئيسي لنهر النيل منذ عام 2011، بهدف «توليد الكهرباء»، فإن مصر تخشى من تأثيره على حصتها من المياه، التي تتجاوز 55 مليار متر مكعب سنوياً، وتعتمد عليها في توفير أكثر من 90 في المائة من مياه الري والشرب.
جاء كلام الرئيس الأميركي دونالد ترمب، حول «سد النهضة» بينما يتحدّث الجمعة قبل الماضي من البيت الأبيض، بعد إعلانه اتفاق تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودولة السودان، التي تخشى أيضاً من استنزاف مواردها المائيّة بسبب السدّ، ووعد السودان بالعمل على «حل ودي». إذ قال خلال اتّصال هاتفي مع الزعيمين السوداني والإسرائيلي أجراهُ أمام صحافيين: «إنّه وضع خطير جدّاً، لأنّ مصر لن تكون قادرة على العيش بهذه الطريقة»، مضيفاً: «سينتهي بهم الأمر إلى تفجير السدّ. قُلتها وأقولها بصوت عالٍ وواضح: سيُفجّرون هذا السدّ. وعليهم أن يفعلوا شيئاً».
وردت أديس أبابا على تلويح ترمب بأن مصر قد تعمد إلى «تفجير» السد، برفضها «الرضوخ لأي نوع من الاعتداءات»، واستدعت السفير الأميركي في أديس أبابا لطلب «إيضاحات» حول تصريحات ترمب، فيما دعا الاتحاد الأوروبي إلى «التهدئة». وجاء الرد الرسمي المصري على تصريحات ترمب، متوافقاً مع سياستها المعلنة، التي طالما فضلت استبعاد الحل العسكري للنزاع. وقال اللواء كمال عامر، رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بالبرلمان المصري، لـ«الشرق الأوسط»، إن تصريحات الرئيس الأميركي «لا تترجم نوايا مصر… وغير مسؤولة عنها»، مشدداً على أن «بلاده مستمرة في مساعيها للوصول إلى اتفاق عادل وملزم، عبر كل الطرق السلمية، وهي متعددة، وهي ترفض استخدام القوة ضد أشقائها الأفارقة».
وفي يونيو (حزيران) الماضي، طالب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وسائل الإعلام في بلاده، بعدم الحديث عن عمل عسكري ضد إثيوبيا، مؤكداً أن مصر تخوض «معركة تفاوضية ستطول».
غضب أميركي
رغم المفاجأة التي أحدثتها تصريحات ترمب، بسبب حدتها، فإنها جاءت في سياق غضب أميركي بدا واضحاً، تصاعد على مدار الأشهر الأخيرة، رفضاً للتعامل الإثيوبي مع القضية، التي يبدو أن إدارة ترمب توليها أهمية كبيرة، ظهر بعد انسحاب إثيوبيا من توقيع اتفاق رعته وزارة الخزانة الأميركية والبنك الدولي، في فبرير (شباط) الماضي. وفي وقت سابق من هذا العام، أقدمت واشنطن على تعليق مساعدات بملايين الدولارات لإثيوبيا؛ بعد قرار أديس أبابا الأحادي ملء خزان السدّ في يوليو (تموز) الماضي، رغم «عدم إحراز تقدّم» في المفاوضات مع مصر والسودان، ما أثار غضب الإثيوبيين الذين اتّهموا الولايات المتحدة بالانحياز لمصر. وفي حين تعوّل مصر على دور قوي للولايات المتحدة في الضغط على إثيوبيا لتوقيع الاتفاق، لام الرئيس الأميركي مصر تجاهل تشييد إثيوبيا للسد منذ البداية، لكنه عزا ذلك إلى الاضطرابات التي شهدتها مصر عام 2011. وقال ترمب: «كان ينبغي عليهم إيقافه قبل وقتٍ طويل من بدايته».
دلالات الموقف الأميركي
في أي حال، لا يخلو الموقف الأميركي من دلالات مهمَّة وستؤثِّر يقيناً على مسار الحلّ التفاوضيّ للأزمة، كما يشير الدكتور حمدي عبد الرحمن، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الذي أكد أن إثيوبيا ستتمسك أكثر بفرض سياسة الهيمنة المائية، كون تصريحات ترمب سوف تساعد القيادة الإثيوبية من أجل تحويل أنظار الداخل الإثيوبي المنقسم صَوْب خطر خارجي متوهَّم. ورغم أن مصر لم تُعلن بشكل رسميّ قط تبنّيها الخيار العسكري في تسوية النزاع، وأنها متمسِّكَة بالدفاع عن حقوقها المائية من خلال طاولة المفاوضات، فإنَّ إثيوبيا ما فتئت تَستخدم لغة القوة في الدفاع عن سدّها المائي الذي تَعتبره رمزاً لكرامتها الوطنية. وهي تارةً تجعله منطقة يُحْظَر الطيران فوقها، وتارةً تجعله مسرحاً لزيارات العسكريين وكبار القادة الذين يعلنون استعدادهم للدفاع عن السدّ.
من جهة ثانية، رفض بيان صادر عن مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي تصريحات ترمب، واعتبر أن «التهديدات والإساءات للسيادة الإثيوبية عمياء وغير مثمرة، وتشكل انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي». و«لن تخضع إثيوبيا لاعتداءات من أيّ نوع مقابل الاعتراف بحقٍّ قررته معاهدات استعمارية».
ومن اللافت للاهتمام أن النسخة المنفصلة من البيان الصادر باللغة الأمهرية استخدمت لغةً أكثر قوةً وحزماً؛ حيث ورد بها ما نصه: «هناك حقيقتان يعرفهما العالم؛ الأولى أنه لم يوجد مَن استطاع العيش بسلامٍ بعد استفزاز إثيوبيا. والثانية هي أنه إذا وقف الإثيوبيون صفّاً واحداً لغرض واحد؛ فهم منتصرون لا محالة». واستدعى وزير الخارجية الإثيوبي السفير الأميركي في أديس أبابا، وطالب بتوضيحات حول تصريحات الرئيس ترمب. وقال جيدو أندارجاتشو: إنه أبلغ السفير مايك راينور أن التصريح الذي أدلى به ترمب كان بمثابة تحريض على الحرب بين إثيوبيا ومصر، ولا يعكس شراكة إثيوبيا مع الولايات المتحدة، وأنه غير مقبول بموجب القانون الدولي.
في المقابل، فإن تصريحات ترمب، وفقا للخبير المصري، تمنح مصر أفضلية في الترويج لروايتها التي تؤكد حقوقها المائية، وأن مسألة الأمن المائي المصري تُمثّل خطراً وجوديّاً تنبغي مواجهته بكل الوسائل الممكنة. فقد بات العالم يدرك اليوم خطأ النظرة الأحادية التي روَّجت لها إثيوبيا بخصوص شعورها بالمظلومية التاريخية، ورغبتها في استخدام السدّ لتحقيق التنمية. فبعد تصريحات ترمب وإشارته إلى حلّ تفاوضيّ رفضته إثيوبيا؛ فإن العالم بات يدرك أن لقضية السدّ وُجُوهاً أخرى غير تلك التي تدَّعِيها إثيوبيا، وأن للمصريين حقوقاً مشروعة لا يمكن تجاهلها.
أيضاً، جاءت تصريحات ترمب بمثابة «تحذير قوي» و«رسالة عنيفة» إلى إثيوبيا أكثر من كونها إعلاناً عن عمل عسكري مصري، وفق الخبير بمركز «الأهرام» الدكتور هاني رسلان، الذي أشار إلى أن «حديث ترمب كان في سياق ضرورة التوصل إلى حل تفاوضي»، رغم أنه «أعطى تلميحاً إلى أن الإدارة الأميركية لن تمانع عملاً عسكرياً، أو أنها لا تستبعد وقوعه حال استمرار الموقف الإثيوبي الرافض لأي اتفاق».
كما أبدى رسلان استياءه من تأخر الموقف الأميركي، رغم قوته، مشيراً إلى أنه «لو أظهرت إدارة الرئيس ترمب هذا الموقف القوي منذ عدة أشهر، لتغير الموقف إلى حد كبير، وربما قد تم الوصول إلى اتفاق»، رابطاً تصريحات ترمب بالانتخابات الأميركية، «الأمر الذي يقلل من قدرتها على إحداث تغيير فعلي على الأرض». أما وزير الري المصري الأسبق، محمد نصر الدين علام، فاعتبر تصريحات ترمب بمثابة «ضوء أخضر لمصر لضرب سد النهضة». وقال علام عبر صفحته على «فيسبوك»، إن موقف ترمب «شهادة أميركية توضح موقف القيادة المصرية من السد، وعدم قبولها للمطالب الإثيوبية واستعدادها للتدخل العسكري للحفاظ على أمننا المائي».
ملمح آخر عبرت عنه تصريحات ترمب، وهو فشل الجهود الإثيوبية في التأثير على صانع القرار الأميركي بشأن «سد النهضة»، كما نوه الدكتور حمدي في دراسته بـ«قراءات أفريقية»، مشيراً إلى أن إثيوبيا حاولت بشتَّى السبل تأسيس جماعة ضغط داخل الولايات المتحدة؛ للترويج لموقفها من سدّ النهضة. ولم تقتصر جهود رئيس الوزراء الإثيوبي في استمالة الموقف الأميركي لصالحه على شركات العلاقات العامة والمحاماة مدفوعة الأجر، لكن على جهود الأميركيين من أصل إثيوبي. ففي 23 يونيو (حزيران) 2020، أصدرت الكتلة السوداء (من أصل أفريقي) أو {البلاك كوكاس} في الكونغرس بياناً أشادت فيه بالسد الإثيوبي؛ باعتبار «أن له تأثيراً إيجابيّاً في المنطقة».
مفاوضات متعجلة
جدير بالذكر أنه جُمدت المفاوضات الثلاثية، التي تجري برعاية الاتحاد الأفريقي، نهاية أغسطس (آب) الماضي، بعد خلافات فنية وقانونية، إذ تطالب مصر والسودان باتفاق قانوني ملزم يشمل النص على قواعد أمان السد، وملئه في أوقات الجفاف، ونظام التشغيل، وآلية فض النزاعات. لكن تصريحات ترمب جاءت لتحدث دفعة قوية للمفاوضات، على الصعيد التنظيمي على الأقل وليس التوافق، خصوصاً بعدما دخل الاتحاد الأوروبي على خط النزاع. فقد دعا المفوض الأعلى للشؤون الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في بيان مصر والسودان وإثيوبيا، إلى «بلوغ اتفاق بشأن ملء السد»، مؤكداً أن «الآن هو وقت للتصرف وليس لزيادة التوترات». وأعرب المفوض عن الدعم الأوروبي الكامل لجهود جمهورية جنوب أفريقيا، التي تترأس حالياً الاتحاد الأفريقي، لدفع الأطراف إلى حل تفاوضي، مضيفاً أن الاتحاد الأوروبي يتطلع إلى استئناف المحادثات في أسرع وقت.
وبالفعل، وجه الاتحاد الأفريقي دعوة وزراء الخارجية والمياه في السودان ومصر وإثيوبيا، (الثلاثاء الماضي)، بمشاركة عدد من الخبراء الأفارقة ومراقبين دوليين من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى اجتماع، لمناقشة ترتيبات مفاوضات «سد النهضة». وإثر الاجتماع، قرر مفاوضو مصر وإثيوبيا والسودان، العمل خلال أسبوع، على إعداد «مسودة مجمعة» لمقترحات اتفاق ينظم قواعد ملء وتشغيل «سد النهضة»، لكنها خطوة شكك مراقبون في جدواها، نظراً لكثرة الخلافات الفنية والقانونية، فضلاً عن فشل محاولة مماثلة سابقاً.
وهنا يقول هاني رسلان: «تقررت العودة لمناقشة ما سبق الفشل فيه قبل شهرين مع تخصيص أسبوع لاستكشاف أسلوب أمثل للتفاوض». ويشير رسلان إلى فشل إعداد نسخة أولية مجمعة لعرضها على هيئة مكتب الاتحاد الأفريقي، نهاية أغسطس (آب) الماضي، بسبب الخلافات بين الدول الثلاث حول كثير من النقاط القانونية والفنية، الأمر الذي أدى إلى توقف المفاوضات. واعتبر الخبير المصري العودة إلى مدة أسبوع، لمناقشة فكرة توحيد المقترحات التي فشل الأطراف في الاتفاق عليها سابقاً، بمثابة «حركة دائرية في المكان نفسه»، مستمرة منذ 10 سنوات.
أما محمد نصر الدين علام فاقترح لحلحلة الخلافات «تشكيل وفد من الاتحاد الأفريقي ومراقبين من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، للوساطة بين الدول الثلاث للوصول إلى أجندة متفق عليها وإطار زمني للتفاوض، لوقف إهدار الوقت». وأضاف علام لـ«الشرق الأوسط»: «حال فشل الوفد المشترك في التوصل مع الدول الثلاث إلى أجندة متفق عليها، يقوم بإعداد تقرير عن أسباب الفشل ورفعه إلى رئاسة الاتحاد الأفريقي ثم إلى مجلس الأمن الدولي».
يذكر أنه في الأيام الماضية، أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس المجلس السيادي في السودان الفريق عبد الفتاح البرهان، خلال لقائهما في القاهرة، تمسكهما بضرورة التوصل إلى «اتفاق قانوني ملزم» حول «سد النهضة» الإثيوبي. وأكد الزعيمان المصري والسوداني «الأهمية القصوى» لقضية المياه بالنسبة للشعبين المصري والسوداني بصفتها «مسألة أمن قومي».
تباين مصري ـ إثيوبي
تتهم القاهرة أديس أبابا بـ«محاولة فرض الأمر الواقع»، و«السيطرة على النيل الأزرق وليس توليد الطاقة»، وهو ما لا يمكن في ظلها نجاح المفاوضات، كما يشير المستشار القانوني لوزارة الخارجية المصرية الدكتور محمد هلال، الذي يرجع فشل المفاوضات إلى «الاختلاف الجوهري على الهدف منها». ويوضح هلال في تصريحات سابقة أن مصر تسعى للتوصل إلى اتفاق مبنيّ على مقايضة بسيطة ومفيدة للطرفين؛ وهي أن إثيوبيا يجب أن توفر الطاقة الكهرومائية من السد من دون الإضرار بمجتمعات دول المصب في مصر والسودان، في المقابل، فإن إثيوبيا تستغل المفاوضات كي تؤكد سيطرتها على النيل الأزرق، وإعادة تشكيل التضاريس السياسية في حوض النيل.
وتابع أن سبب «التعنت الإثيوبي» هو أن سد النهضة بالنسبة لإثيوبيا له «قيمة أكبر بكثير من قيمته الاقتصادية»، حيث تعدّه أديس أبابا «أداة سياسية للسيطرة غير المقيدة على النيل الأزرق، ولإجبار مصر والسودان على تقسيم مياه النيل الأزرق وفقاً لشروطها».
ودعا هلال دولة جنوب أفريقيا (رئيسة الاتحاد الأفريقي)، الراعي الحالي للمفاوضات، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، للضغط على إثيوبيا للتوصل إلى اتفاقية حول ملء السد وتشغيله.
المصدر: الشرق الأوسط