إعداد وترجمة: الشرق اليوم
ألقى الرئيس الفرنسي، إيماونيل ماكرون، خطاباً في قصر الإليزيه مؤخراً، على أثر مقتل مدرس فرنسي طعناً على يد أحد المتطرفين، أكد فيه أن بلاده لن تتخلى عن مبدأ الحرية والتعبير، ودعمها للعلمانية، والدفاع عن الحق في حرية نشر الرسوم الكاريكاتورية.
أثار الخطاب سخطاً شعبياً ورسمياً واسعاً في العديد من الدول العربية والإسلامية، كما وُصف بخطاب يدعو للكراهية ويؤيد اليمين المتطرف ونبذ الآخر، ما أدى إلى انطلاق العديد من الحملات في العديد من الدول تدعو لمقاطعة جميع المنتجات والشركات الفرنسية، كردٍ على خطاب ماكرون.
فهل أراد الرئيس الفرنسي أن يستهدف الدين بمفهوهمه العام؟ أم الدين الإسلامي على وجه الخصوص؟ وهل تمت قراءة خطابه بموضوعية؟
أدناه ترجمة لنص خطاب الرئيس الفرنسي:
ما الذي يهدد جمهوريتنا وقدرتنا على العيش معاً في مجتمعنا اليوم؟ المشكلة لا تكمن في العلمانية. فكما أشرت مرات عديدة، العلمانية في الجمهورية الفرنسية تعني حرية الإيمان أو عدم الإيمان، كما تعني أيضاً حرية المرء في ممارسة دينه طالما أن النظام العام مضمون. وتتوافق العلمانية مع حياد الدولة: ولا تعني بأي حال إزالة الأديان من المجال العام.
إن العلمانية هي دعامة فرنسا الموحّدة. وإذا كانت الروحانية مسألة فردية، فإن العلمانية هي من شأن الجميع. وعليه، فإن الذين يؤمنون بقيم الجمهورية يجب ألا يستسلموا أبداً لأولئك الذين يحاولون إحداث الانقسامات والصدامات باسم مبدأ العلمانية.
لدينا قواعد، وعلينا أن نضمن احترامها بحزم وإنصاف في كل مكان دون أي تنازل. وإضافة إلى ذلك، ينبغي ألا نقع في فخ الخلط الذي وضعه المجادلون والمتطرفون، من خلال وصم جميع المسلمين. فهذا الفخ هو الذي نصبه أعداء الجمهورية، والذي يتمثل في اعتبار كل مسلم حليفاً موضوعياً لأنهم ضحية منظومة جيدة الترتيب، وهذا شيء بالغ السهولة.
وبدلاً من ذلك، يتعين علينا التصدي للنزعة الانفصالية الإسلامية هذه. فهي مشروع سياسي ديني، يتشكل من خلال الانحراف المتكرر عن قيم الجمهورية، وغالباً ما يؤدي إلى تشكيل مجتمع مُضاد. ونرى هذا في الأطفال المتسربين من المدرسة والرياضة، وفي نشوء مجتمعات ثقافية تعلّم مبادئ لا تتوافق مع قوانين الجمهورية. ثم تستتبع عملية التلقين هذه إنكار مبادئنا، بما في ذلك المساواة بين المرأة والرجل والكرامة الإنسانية.
أنا لا أطلب من أي مواطن فرنسي أن يؤمن أو لا يؤمن، أو يؤمن قليلاً أو يؤمن إيماناً معتدلاً، فهذا ليس من شأن الجمهورية. لكنني أطلب من جميع المواطنين أن يحترموا سيادة القانون بغض النظر عن دينهم. فلدى هذه الإسلاموية المتطرفة طموح لمخالفة قوانين الجمهورية، وإنشاء نظام موازٍ لتعزيز القيم الأخرى، وإقامة تنظيم آخر للمجتمع -انفصالي في البداية- وهدفها النهائي هو السيطرة على المجتمع.
هناك إسلاموية متطرفة تؤدي إلى جحد قوانين الجمهورية، وتؤدي إلى التهوين من شأن العنف، وقد أدى ذلك إلى قيام بعض مواطنينا وأبنائنا باتخاذ أسوأ الخيارات، أو حتى اعتبار أن الأسوأ أصبح شيئاً طبيعياً. والتحدي الذي نواجهه اليوم هو ضمان عدم استهداف أولئك الذين يريدون اعتناق الإسلام، فهم مواطنون كاملو الحقوق في جمهوريتنا.
كيف سمحت فرنسا للإسلاموية بالحدوث
عندما تقول إن ملايين الفرنسيين يعيشون في الجمهورية بصفة مواطنين كاملين ويؤمنون بالإسلام، يُقال لك: أنت ساذج، أنت تتستر عليهم، ولا تُعالج المشكلة. وعندما تريد معالجة هذه القضايا التي أتحدث عنها -حتى في أكثر أشكالها تطرفاً- فإننا نقع في فخ وصم دينٍ بأكمله.
يجب أن نقول بعض الأشياء، وأن نقبل أيضاً أننا نواجه تحدياً استغرق حصوله في بلدنا عقوداً من الزمن، وبالتالي لن نهزمه في يوم واحد. لكن يجب علينا معاً -في صحوة الجمهورية- أن نتصدى لأولئك الذين يريدون تقسيمنا.
لقد كُتب الكثير حول ما يمر به بلدنا في هذا الصدد، ووُصف وحُلّل تحليلاً في غاية العمق. وأنا لست خبيراً، ولكنني أود أن أصف الأشياء كما أراها ببضع كلمات: إن الإسلام دينٌ يمرّ بأزمة اليوم في جميع أنحاء العالم.
ونحن لا نرى ذلك في بلدنا فقط، بل إنها أزمة عميقة سببها التوترات بين الأصوليين، والمشروعات الدينية والسياسية على وجه التحديد. فلنأخذ تونس على سبيل المثال، حيث كان الدّين قبل ثلاثين عاماً يُمارس بصورة مختلفة. والتوترات التي نشهدها في مجتمعنا اليوم موجودة أيضاً في تونس، التي تُعدّ بلا شك واحدة من أفضل الدول تعليماً وأكثرها تقدماً في المنطقة.
لا بد من القول إننا سمحنا بحدوث ذلك: في الداخل والخارج. إذ أن الوهابية والسلفية وتنظيم الإخوان المسلمين، والعديد من هذه الأشكال كانت سلميةً في البداية بالنسبة للبعض، ثم أصبحت متطرفة. لقد روّجوا للانقسامات، ولمشروعٍ سياسي يُنكر المساواة بين الرجل والمرأة. وقد وصلوا إلى أراضينا من خلال التمويل الخارجي، ومن خلال التلقين العقائدي.
تجمّعات البؤس
لقد سمحت الجمهورية بانعزال الأحياء، إذ كانت لدينا سياسة يُطلق عليها أحياناً سياسة الاستيطان، فبنينا تجمّعات من البؤس.
لقد جمّعنا السكان في كثير من الأحيان وفقاً لأصولهم وخلفياتهم الاجتماعية، فتسببنا في تجمّع المعاناة التعليمية والاقتصادية في مناطق معينة من الجمهورية. وعلى الرغم من الجهود السياسية، لم نتمكن من إعادة إحياء التنوع بما فيه الكفاية، بل ولم نتمكن من اتخاذ أي إجراءات فيما يتعلق الأمر بالحراك التعليمي والاجتماعي. وهكذا لم تفِ الجمهورية بوعودها في هذه الأحياء، فانتشرت فيها رسائل متطرفة تروّج لحلول متطرفة لتعليم الأطفال، من خلال تعليم اللغة الأصل، ورعاية المسنين، وتقديم الخدمات.
فلم تعد الجمهورية تقدم هذه الخدمات، وحل محلّها الإسلاميون المتطرفون بصورة ممنهجة. ومع تراجع دور الحكومة، خدمنا مشروعهم بجُبننا. وهذا هو السبب في أن أوجه القصور في سياسة الاندماج لدينا، ومعاناتنا ضد التمييز والعنصرية ومعاداة السامية التي يغذّي الواحد منها الآخر، أدت أيضاً إلى حدوث هذا التطور تدريجياً.
أضف إلى ذلك حقيقة أننا دولة لديها ماضٍ استعماري، وتعاني من صدمات لم تُعالج بعد. وأبناءُ الجمهورية، من أبناء و أحفاد المهاجرين من المغرب العربي وجنوب الصحراء الكبرى، يفكرون في هويتهم من خلال خطاب ما بعد الاستعمار أو مناهض للاستعمار.
يجب أن نستعيد كل ما سمحت الجمهورية بحدوثه، والذي أدى إلى انجذاب بعض شبابنا ومواطنينا إلى هذا الإسلام المتطرف.
ونحتاج أيضاً إلى معالجة الصدمات وأوجه القصور التي لدينا. فإذا كان خطابنا اختزالياً للغاية، فسوف نرسل للشباب الرسالة الخاطئة: “نحن لا نحبكم، أنتم لا تنتمون لهذا المكان”. وإذا كانت رسالتنا ساذجة للغاية، فسيقول الناس: “إنهم لا يعرفون كيف يعالجون المشكلة”. ويمكنني أن أرى العواقب: هناك مدرسة تُغلق بجوار منزلي، وهناك جمعية تُقام، وهناك القُرّاء. وعلينا التعامل مع كل هذه الأشياء في الوقت نفسه. وينبغي أن يبدأ العمل اليوم، وسوف يتعين علينا جميعاً القيام بهذه المهمة معاً، وسوف تستغرق سنواتٍ طوال.
وفي هذا الصدد، نحن نعمل على الأرض منذ اليوم الأول بقوة وتصميم كبيرين، ومسؤولونا يعملون بجد. لن أعيد هنا سرد كل ما فعلناه خلال السنوات الثلاث الماضية في الحرب على الإرهاب، ولكن أجهزة المخابرات وقوات الأمن الداخلي وقضاة التحقيق قد فعلوا الكثير. كما قد أُقرّت بعض القوانين في بداية فترة خمس السنوات، أدت إلى إنشاء أجهزة استخبارات تتمتع بتنسيق أفضل، وإقامة مكتب مدعٍ عام متخصص، كما خُصصت المزيد من الموارد، وتم إحباط 32 هجوماً. إلا أن الأمور تتغير بسرعة، ونحن نواجه إرهاباً مُستورداً، لذلك يجب علينا أن نواصل العمل بعزم وقوة. هذه هي المهمة، وهذا هو التزام وزير الداخلية وجميع موظفي الخدمة المدنية الذين يعملون معه، كما أن مهمة وزير العدل هي مواصلة الإحباط والتقدم والاستعادة.
ومنذ عام 2017، قمنا أيضاً بتصعيد مكافحة التطرف من خلال اتخاذ إجراءات واضحة ودقيقة وحازمة. ومع نهاية عام 2017، طُبّقت خطط مكافحة التطرف التي تشمل جميع أجهزة الدولة في 15 حياً بالتعاون مع القضاة وأجهزة الاستخبارات. فتم إغلاق 212 حانة، و 15 دار عبادة، و4 مدارس، و 13 جمعية ومؤسسة ثقافية، وأُجريت مئات عمليات التفتيش، وضُبطت ملايين اليوروهات في هذه الأحياء. ودفعتنا تلك النتائج الجيدة إلى توسيع هذه الطريقة لتشمل الإقليم بأكمله. فأُنشئت خلايا لمحاربة الإسلاموية في كل الأقاليم، وجرى التجهيز للانسحاب من المجمعات السكنية في الشتاء الماضي. فأصبح من الممكن فعلاً منع إقامة المؤتمرات التي تنظمها الحركات الإسلامية المتطرفة، وعرقلة أي جمعيات يكون سبب وجودها الترويج للإسلام السياسي. وفي المُجمل، جرت 400 عملية تفتيش، وأُعلن عن 93 عملية إغلاق منذ 1 يناير 2020.
وأود أن أؤكد أن الحكومة تقمع أيضاً ترويج المخدرات والعصابات المنظمة. ففي الواقع، يُستخدم تهريب المخدرات في كثير من الأحيان لتمويل شبكات الإسلام المتطرف.
يجب أن نُعالج المشكلات التي نلاحظها على أرض الواقع. ويجب أن تتضمن الاستجابة اتخاذ تدابير للحفاظ على النظام العام، وتدابير من أجل تجديد مشاركة الجمهورية، وينبغي وضع استراتيجية شاملة لها في رأيي خمسة أبعاد رئيسية.
إن ما أعددناه هو ثمرة ما رصده على الأرض موظفو الخدمة المدنية، والمسؤولون المنتخبون، والجمعيات. وفي صميم استراتيجيتنا، سوف نفوّض بعض الأشخاص، وسوف يصدر أيضاً قانون جديد، حيث سيقدم وزير الداخلية مشروع القانون إلى المجلس في 9 ديسمبر. فبعد مضي 115 عاماً على اعتماد قانون 1905، يهدف مشروع القانون إلى تعزيز العلمانية وترسيخ مبادئ الجمهورية. وقد ساهم جميع الوزراء الحاضرون هنا مساهمة كبيرة في صياغته، وأنا أشكرهم على ذلك، وسوف يواصلون القيام بذلك في الأيام والأسابيع القادمة بينما تجري المفاوضات، كما سيناقشون النص خلال المناقشات البرلمانية مع الوزير.
البُعد الأول هو مجموعة من الإجراءات للحفاظ على النظام العام، وضمان علمانية الخدمة العامة. ويأتي هذا ليكون رداً فورياً وحازماً على المواقف المرصودة التي تتعارض مع مبادئنا، حيث يتعرض النواب المنتخبون أحياناً لضغوط من الجماعات أو الجاليات، ونتيجة لذلك أدخلوا قوائم طعام طائفية في المطاعم. وقد حدث هذا في أقاليم مثل سين سان دوني، وكذلك في إقليم نورماندي. كما مَنع نواب منتخبون آخرون الرجال أو النساء القادمين من خلفيات معينة من دخول حمامات السباحة. وقد حدث هذا في بلدة ليست بعيدة من هنا، حيث طالبت النساء بأوقات دخول إلى المسبح منفصلة عن الرجال. وبمجرد إقرار القانون الجديد، سيتمكن المحافظون من إيقاف إجراءات البلدية التي تؤدي إلى هذه الحالات. ويهدف هذا التدبير إلى حماية حياد الخدمات العامة والحفاظ على النظام العام في الوقت نفسه.
شهدنا أيضاً عدداً متزايداً من الانتهاكات في السنوات الأخيرة في العديد من الخدمات العامة، لا سيما في المواصلات العامة. وهي انتهاكات صادمة، وغالباً ما يُنظر إليها بعدسة عدم الحيلة بسبب تحايلها على القانون. فهناك مراقبون يرفضون صعود النساء إلى الحافلات بسبب لباسهن، ولكي نكون واضحين تماماً، لأنهن لا يرتدين الزي الذي يعتبرونه لائقاً، ولدينا طلبات من أجل الحصول على شارات تفاخر يرتديها الوكلاء الذين يؤدون الخدمات التي تفوضها البلدية. والتطرف آخذ في الارتفاع، ففي الشهور تعقبنا أكثر من 80 شخصاً يعملون في مطاري رواسي وشارل ديغول.
لقد كان حياد الخدمة العامة واضحاً وثابتاً عندما كانت في أيدي موظفي الخدمة المدنية في مواقع خاضعة للرقابة، لكن سلسلة الانتهاكات بدأت تحدث منذ تنازل الدولة عن الخدمة العامة. وسوف يجعل القانون الجديد الحياد الديني إلزامياً للموظفين العاملين في الشركات المفوَّضة، الأمر الذي لم يكن كذلك على ما يبدو.
البُعد الثاني يتعلق بالجمعيات، إذ تُعدّ جمعياتنا جانباً أساسياً من جوانب الميثاق الجمهوري، فهي في غاية الأهمية. ويعرف وزير الصحة والتعليم والشباب والرياضة ذلك جيداً، وأعتقد أن جميع النواب المنتخبون والمحافظون يعرفون ذلك. لكن أولئك الذين يروجون للانفصالية الإسلامية استثمروا في مجال الجمعيات، لأنهم وجدوا أنها الشكل، أو على الأقل المساحة الأكثر فاعلية، التي يمكنهم نشر أفكارهم فيها. وما عرفناه من وسائل الإعلام، والمحافظين، والأكاديميين، هو أن العديد من الجمعيات التي تنظّم أنشطة ثقافية أو فنية أو لغوية أو غيرها، وتقدم المساعدة للأشخاص الذين يعانون من أجل تغطية نفقاتهم، هي في الواقع تنشر استراتيجيات تُعتبر تلقيناً للعقيدة.
يجب على الجمعيات أن توحّد الأمة، لا أن تُحدث الفتنة فيها. وحتى الآن، كانت أسباب حل الجمعيات محدودة للغاية، إذ اقتصرت على أعمال الإرهاب والعنصرية ومعاداة السامية. وسوف تشمل الآن أيضاً انتهاك الكرامة الشخصية، بالإضافة إلى الضغط النفسي أو الجسدي.
ويجب علينا أيضاً معالجة مسألة التمويل. ومن الآن فصاعداً، سيتعين على أي جمعية تتقدم للحصول على منحة من الدولة أو السلطة المحلية أن توقع عقداً معها، وتتعهد باحترام قيم الجمهورية. وفي حال الإخلال بالعقد، فسيتعين على المسؤولين عن ذلك دفع تعويض، لأنه من الواضح أنه لا ينبغي استخدام المال العام لتمويل الانفصاليين. وأعلم أنه في هذا الإقليم، بدأ العديد من النواب المنتخبون إقناع الاتحادات الرياضية بالتوقيع على هذه المواثيق العلمانية. ولكن يجب على كافة الجمعيات في جميع أنحاء فرنسا توقيع نفس العقد وتلبية نفس المتطلبات. وسيكون هناك أيضاً ضوابط والتزام بالتعويض في حال الإخلال بالعقد كما ذكرت.
وقد كان أمين السر ووزير الداخلية يعملان على هذه العقود، وأشكرهما على ذلك. وأعتقد أننا سنكون قادرين على إغلاق المؤسسات غير المقبولة، وزيادة الضغط على الجمعيات.
البُعد الثالث يخصّ المدرسة. فالمدرسة تُعدّ بوتقة الجمهورية، وفي المدرسة نحمي أطفالنا من أي علامة دينية، ومن الدين. وهي بحق فضاء العلمانية، والمكان الذي نشكّل فيه الضمائر بحيث يصبح الأطفال مواطنين أحرار وعقلانيين، قادرين على اختيار الحياة التي يريدونها. لذلك فإن المدرسة تُعدّ كنزنا كلنا.
لكننا رأينا انتهاكات وتجاوزات للقواعد هنا أيضاً. حيث أن أكثر من 50 ألف طفل يتلقون تعليمهم في المنزل، وهذا الرقم يزداد عاماً بعد عام. وفي كل أسبوع، يكتشف مديرو المدارس أطفالاً خارج النظام تماماً. وفي كل شهر يُغلق المحافظون بعض “المدارس” لأنه غير مُصرّح عنها، ولأنها غير قانونية ويديرها متطرفون دينيون. وهذه الظاهرة واضحة ومباشرة، فهي تبدأ بقول أولياء أمور التلاميذ لمدير المدرسة: “لن يعود طفلي إلى المدرسة إلا إذا بعد انتهاء درس الموسيقى”، أو “عندما ينتهي درس السباحة”. ثم يأتي التلاميذ إلى المدرسة حاملين شهادات تفيد بحساسيتهم من الكلور، ويتغيبون أكثر فأكثر، ثم يتركون المدرسة في نهاية المطاف. ويقول الأهل “سوف نسجله في المركز الوطني للتعليم عن بعد، سوف يكون على ما يرام. إنه أسهل بالنسبة لنا”. لكن في النهاية، لا يُسجّل هؤلاء الأطفال في المركز، وأحياناً لا يحصلون على التعليم على الإطلاق. وبدلاً من ذلك، يذهبون إلى مؤسسات لم يتم الإفصاح عنها أبداً. وفي الأسبوع الماضي، اكتشفنا واحدة أخرى في سين سان دوني. حيث يصل الأطفال الساعة 8 صباحاً كل يوم، وتستقبلهم سيدات منتقبات، ثم يغادرون الساعة 3 مساءً. وعندما تسأل هؤلاء السيدات، يقُلن إنهن يصلين مع الأطفال ويعلمّنهم الدروس.
ونتيجة لذلك، خرج آلاف الأطفال من التعليم، وحُرموا من الوصول إلى الثقافة، إلى تاريخنا، إلى قيمنا، إلى تجربة التغيير الذي هو في صميم المدرسة الجمهورية. ولهذا السبب سيكون هناك قانون جديد، ربما سيكون أحد أكثر الإصلاحات الجذرية منذ قانون عام 1882، وقانون تشجيع التعليم المختلط لعام 1969. واعتباراً من بداية العام الدراسي 2021، سيصبح التعليم المدرسي إلزامياً للجميع بدءاً من سن 3 سنوات، وسيكون التعليم المنزلي محدوداً للغاية.
أدى نظام “إيكوس” الشهير – نظام تعليم اللغة والثقافة الأصل – إلى وجود مدرسين في أراضينا، ضمن إطار تعاقدي مع بلدان الأصل، لا يتقنون الفرنسية في بعض الأحيان، وهم يأتون من الجزائر والمغرب وتركيا. وكما أعلنتُ في الشتاء الماضي في ميلوز، قام وزير التعليم الوطني ووزير للشؤون الأوروبية والشؤون الخارجية على وجه التحديد بالعمل لوضع حد لهذا النظام. حيث سنضمن أن يكون لدينا نظاماً واحداً فقط، وهو نظام “إيلي” لتعليم اللغات الأجنبية الدولية، حيث يمكننا التعاقد مع هذه الدول التي سوف تُرسل المعلمين، لكننا سنمتلك المزيد من السيطرة على أولئك المعلمين الذين ينبغي أن يحترموا قيمنا، حيث سيكون نظام التعليم الوطني قادراً على ضبط جودة التدريس.
وثانياً، يجب على المدارس أن تغرس قيم الجمهورية أولاً وقبل كل شيء، وليس قيم الدين، ويجب أن تقدم التدريب لمواطنين وليس لأتباع. ولهذا السبب ستخضع المدارس غير التعاقدية إلى إشراف أكثر صرامة.
لقد بُنيت الجمهورية على المؤسسة المدرسية، التي لا تُعدّ مجرد أداة لتدريب الأفراد، بل إنها أيضاً تربى الأطفال ليكونوا مواطنين، وتشكّل عقولهم الحرة. ولهذا السبب أنا على قناعة بأن الجمهورية سوف تتصدى من خلال المدرسة لأولئك الذين يريدون إحداث الانقسامات. وهذا مشروعٌ طموحٌ للغاية، وقد بذلنا فيه جهوداً كبيرة، أود أن أشكر الوزراء عليها.
البُعد الرابع لهذه الصحوة الجمهورية، هو أن نبني أخيراً في فرنسا إسلاماً يمكن أن يكون تنويرياً. وأنا لا أعتقد أنه يجب أن يكون هناك شكل من أشكال الإسلام الفرنسي، بل أعتقد أننا نحتاج لمساعدة هذا الدين على هيكلة نفسه.
لقد عملنا بجد على هذا الموضوع لمدة ثلاث سنوات. وقد تحدثتُ إلى جميع الخبراء ومختلف الفرق الإدارية في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية. وكنت أفكر في وقت من الأوقات باتباع نهج توافقي، لكنني أدركت أنه ليس مناسباً للأوقات التي نعيش فيها. إذ كان من شأنه أن يؤدي إلى انقسامات، وإطاره القانوني سيكون هشاً للغاية، وربما كان سيؤدي إلى نتائج عكسية. فهل الدولة بصدد إعادة تنظيم الإسلام؟ وهل سيُموَّل مثل هذا الشيء بأموال دافعي الضرائب؟
قبل أكثر من عامين بقليل، طلبت وزارة الداخلية من جميع محافظي الأقاليم تحديد متحدثين باسم الإسلام. وقد فعلوا ذلك، وبالتالي تمكنوا من بدء الحوار. كما عملوا مع المجلس الفرنسي للعقيدة الإسلامية، ونحن نحاول معاً بناء إسلام تنويري في بلدنا، أي إسلاماً يمكن أن يكون في سلام مع الجمهورية.
أولاً، نحتاج إلى تحرير الإسلام من التأثيرات الخارجية. وسوف نحدّ من تنظيم الإسلام القنصلي، فالأئمة والقراء الموجودون في فرنسا تلقوا التدريب في دول أجنبية، حيث قدمته لهم تركيا والمغرب والجزائر. وقد قررنا وضع حد لهذا النظام بطريقة سلمية تماماً، وسوف نتولى تدريب أئمتنا وقراءنا بأنفسنا. فهذا النظام يؤدي إلى تنافسات واختلالات وظيفية، ولكنه يواصل قبل كل شيء حمل الأنا لحقبة ما بعد الاستعمار التي ذكرتها إلى مكان آخر مع الكثير من الغموض، ولا يسمح لهيكلة هذا الدين في بلدنا بالمضي قدماً كما ينبغي. وأقول هذا بالاتفاق مع كل من المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية والدول الثلاث التي ذكرتها. وهكذا سوف نضع حداً لهذا التأثير الأجنبي.
ثانياً، استخدمت العديد من المؤسسات قانون عام 1901 لتمويل الأنشطة الدينية. وبالتالي سيتم تشجيع المساجد على التحول إلى النظام المنصوص عليه في قانون عام 1905، والذي يُعدّ أكثر فائدة من الناحية المالية، ويسمح بوضع مزيد من الضوابط فيما يتعلق بالتمويل الخارجي. وكل من يواصلون اتباع قانون عام 1901 سيواجهون ضوابط مُشددة.
وقبل كل شيء، ستكون هذه نهاية نظام التعتيم. فنحن لا نحظر التمويل من الخارج، بل الأمر ببساطة مسألة مراقبة التمويل وجعله شفافاً. وهذا هو الأساس لتحرير الإسلام في فرنسا من التأثيرات الخارجية التي نادراً ما تكون للأفضل كما رأينا.
ثالثاً، إن الرغبة في حماية المسؤولين عن المساجد من التمرد والاستيلاء العدائي من المتطرفين تُعدّ عنصراً بالغ الأهمية في إعادة هيكلة الإسلام. وما نراه اليوم -وأنا أعلم أن النواب المنتخبين الحاضرين هنا لاحظوه، بل ومروا به في بعض الأحيان- هو أنه ثمة عمليات استيلاء عدائية تحدث في المساجد لتغيير قادة الجمعيات الدينية بصورة مفاجئة. فنرى الإسلاميين المتطرفين يسيطرون على الجمعيات وتمويلها، ويطبقون أسوأ السياسات. وهذا لن يحدث أبدا مرة أخرى.
وأخيراً، يجب أن ندرب في فرنسا جيلاً من الأئمة والمثقفين الذين يروجون لإسلامٍ متوافق تماماً مع قيم الجمهورية. حيث يقوم المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية حالياً بإعداد دورات تدريبية للأئمة في بلدنا، واعتماد الأئمة ووضع ميثاق يجب عليهم التوقيع عليه، وفي حال عدم التزامهم به، فسوف يُطردون. ليس بإمكان الدولة فعل شيء بحكم مبدأ الفصل نفسه، ولكن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية هو الذي سيقوم بالعمل.
ويجب على الدولة أيضاً أن تشارك فيما يتعلق بالبعد الفكري والعلماني. حيث يجب أن تلتزم وتدعم كل ما يمكن أن يؤدي إلى فهمٍ أفضل للإسلام في بلدنا، وكذلك إلى إسلام أفضل، وتدريب فكري وأكاديمي أفضل. وسنخصص لهذه الغاية 10 ملايين يورو لصالح مؤسسة الإسلام في فرنسا من أجل ابتكار مبادرات في مجالات الثقافة والتاريخ والعلوم.
وسوف نؤسس أيضاً معهداً لعلوم الإسلام، وسنوفر المزيد من فرص العمل البحثية لدراسة الحضارة الإسلامية، والمغرب العربي، ومنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، وإفريقيا.
وقد تخلينا عن العديد من هذه الموضوعات، وتركنا المناظرات الفكرية للآخرين. حيث أفكر في التقليد الأنجلو سكسوني الذي له تاريخ مختلف عن تاريخنا. وبالتالي، يجب علينا إعادة الاستثمار على نطاق واسع في مجال العلوم الاجتماعية -أي تاريخ الحضارات ومعرفتها- من خلال توفير فرص العمل، وتطوير الحوار، والنقاش الأكاديمي والعلمي.
وسوف ننفذ هذه المهمة بعزمٍ وتصميم كبيرين. فأنا أريد أن تصبح فرنسا دولة تُعلّم فكر ابن رشد وابن خلدون، وأريد أن تكون فرنسا دولة متميزة أكاديمياً فيما يتعلق بدراسة الحضارات الإسلامية. نحن مدينون بذلك لأنفسنا، لأن المشروع الذي أشرت إليه آنفاً لا يمكن أن ينجح ما لم نفهم الحضارات بصورة أفضل.
يجب علينا أيضاً تعليم اللغة العربية في المدارس، أو باعتبارها جزءاً من الأنشطة خارج المنهاج. فعندما لا نفعل ذلك بما يتوافق مع قوانين الجمهورية، فإن هناك أكثر من 60 ألف شاب سوف يتعلمونها في الجمعيات، حيث سيتلاعب بهم أولئك الذين ذكرتهم سابقاً. ونحن نطمح لأن تكون لدينا سياسة حقيقية لتعليم اللغات والحضارات في المدرسة، تشمل المعلمين والمتحدثين المعتمدين الذين نعرف أنهم يحترمون قيم الجمهورية.
وأخيراً، هناك البُعد الخامس الذي أود التأكيد عليه: يجب أن نشجع الأفراد من جديد على حب الجمهورية.
ففي أعماقنا، لدينا واجب الأمل. وهناك أيضاً شعور بعدم الأمان ترسخت جذوره، يصفه البعض بانعدام الأمن الثقافي: وهذا صحيح على ما أعتقد، لأن مجتمعنا منقسم، ونحن الذين سمحنا بحدوث ذلك، ونعتقد الآن أنه يمكن حل كل هذه المشكلات عن طريق القرارات والقوانين.
في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حققت الجمهورية شيئاً استثنائياً: لقد فتحت البُلدان وأنشأت نظاماً جمهورياً. وحققت ذلك من خلال المدرسة، ومن خلال خدماتها العامة، ومن خلال العدالة. لقد حققت ذلك لأن الناس أحبوا الجمهورية. وبالفعل، وفّرت الجمهورية مستقبلاً مُشرقاً لمعظم الأطفال. وعندما لم تعد الجمهورية تقدم مستقبلاً للأطفال، فينبغي ألا تتوقع منهم أن يحبوها.
والعمل الذي بدأناه بحماس كبيرة -وأود أن أشيد به هنا- هو العمل الذي يجب علينا تكثيفه. وهذا يعني إعادة الجمهورية إلى العالم الحقيقي. أريد توسيع الفصول الدراسية من جديد لـ 300 ألف تلميذ، فهذه هي الجمهورية التي أصبحت حقيقية لهؤلاء الأطفال الذين سيتمكنون من تعلّم القراءة والكتابة والحساب في أصعب المناطق. إنها الحقيقة. وقد حدثت إصلاحات أيضاً في توجيه الدعم، والوقت المخصص للأنشطة الإضافية، والفصول الدراسية الصيفية، وما إلى ذلك. هذا العمل ضروري، وسنواصل القيام به. وسوف نفتتح أيضاً 80 مدينة تعليمية، ونحدد 530 داراً للخدمات الفرنسية، ونمدد ساعات عمل المكتبات في أكثر من 600 بلدية، ونؤسس ما يقرب من 100 وجهة ثقافية.
هذه هي السياسة التي نتبعها. وهكذا طبّقنا كل هذا على مدى السنوات الثلاث الماضية بعزيمة قوية. وقد طرح الوزراء العديد من المقترحات، كما دعمهم أيضاً جان لوي بورلو، الذي أود أن أحييه على عمله ومشاركته وأفكاره. وعندما أنظر إلى التقرير الذي قُدّم إلينا، أجد أنه قد تم تنفيذ أكثر من ثلاثة أرباعه، ويمكننا أن نفتخر بذلك.
إن ما ينبغي علينا فعله اليوم هو المضي قُدماً. حيث سننشئ في الأسابيع القادمة 40 مدينة تعليمية أخرى، ونفتتح 300 داراً إضافية للخدمات الفرنسية، وسنقوم باستثمار إضافي في الوكالة الوطنية للتجديد العمراني.
وفيما يتعلق بالأمن والعدالة، سوف نضخ استثمارات إضافية، وسيأتي الحكّام والقضاة والمتطوعون للمساعدة في القيام بالمهام المحلية. وهدفنا بسيط: يجب أن نعود إلى المجالات التي تراجعنا فيها، ويجب أن نسمح لنظامنا القضائي بالاستجابة بسرعة، حتى يستعيد كل شيء معناه، سواء من أجل الضحية أو مثير المشكلات أو قواتنا الأمنية.
نحن جميعاً نحب الجمهورية عندما تفي بوعدها بالتحرر، وكل ما ذُكر حتى الآن يُنفّذ بهدف الوفاء بهذا الوعد.
فلا العنصرية ولا معاداة السامية يتوافقان مع الجمهورية. ولهذا السبب، يجب أيضاً أن يكون لدينا -ضمن إطار هذه الاستراتيجية- الطموح للمضي إلى أبعد مما كنا عليه في البداية. وسوف أُصدر قرارات جديدة في الخريف المُقبل.
أما في مجال الإسكان، فيجب أن نُجري تغييراً جذرياً في قوانيننا. حيث يجب أن يكون هناك جزء من خطة الإحياء هذه يسمح بالتحرر الثقافي والاقتصادي والبيئي في أحيائنا السكنية.
ويجب أن يكون هناك في خطة التعافي هذه تغييرات عميقة لتمكين الأحياء الأكثر فقراً من تنفيذ مشروعات تعليمية وثقافية وريادية، وتحقيق تحول بيئي ناجح، وسوف أطرح ذلك التغييرات خلال الأسابيع المقبلة.
أيها السيدات والسادة، كما ترون، إنها استراتيجية كاملة لحشد الأمة من أجل الصحوة الجمهورية. وأنا أدرك أنني ربما خيّبت آمال أولئك الذين كانوا يتوقعون صورة هزلية بطريقة أو بأخرى، وأنا أتحمل مسؤولية ذلك بالكامل.
إن هذه الصحوة الجمهورية تشمل الزعماء السياسيين، والمحافظين، ورجال الشرطة والدرك، والمدرسين، وموظفي الخدمة المدنية، والمسؤولين المنتخبين، والجمعيات، والقضاة. ويجب عليهم تنفيذ هذا الوعد كل يوم. إنهم لم ينتظروا مني الإدلاء بالملاحظات التي ذكرتها، لكننا نريد اليوم أن نمنحهم الموارد اللازمة لمعالجة المشكلات ضمن إطار عمل واضح.
إن هذه الصحوة هي صحوة جميع المواطنين، صحوة فرنسا المتحدة حول قيمها. وكلما سعى أعداؤنا إلى إيجاد انقسامات في المجتمع، زاد اتحادنا. وكلما سعوا إلى تدميرنا، زاد وقوفنا معاً. وكلما حاولوا تغيير قيمنا، زاد تمسكنا بها. ولكن يمكنني أن أقول لكم بقناعة كبيرة إنه يجب علينا أن نتعلم من جديد الأسباب التي تجعلنا نعيش معاً.
ففي كل يوم، يحاول الناس إحداث الانقسامات، لكننا لسنا مجتمع أفراد، بل نحن أمة من المواطنين. وعندما نتعلم أن نكون مواطنين، نصبح مواطنين. وأنا لن أتخلى عن أي شيء لأولئك الذين يسعون لتقسيمنا بطريقة أو بأخرى، لأنني أعتقد أن أعظم كنز لدينا هو هذه الكتلة التي نشكلها. إنها كتلة واحدة ومتعددة، فدعونا لا ننساها أبداً. هذه هي قوة جمهوريتنا، حيث لا يعني التعدد أننا تكتلات من المجتمعات، بل نحن مجتمع وطني، وهذا المجتمع الوطني مكوّن من 66 مليون حكاية.