بقلم: إياد العنبر – الحرة
الشرق اليوم- لا أحد في العراق يختلف على توصيف حالة التردي والفوضى التي نعيشها، وأعتقد أنها النقطة الوحيدة التي تتفق فيها أحاديث رجالات السياسية مع المواطن. لكن عندما نسأل عن الحلول لا نجد إجابات واضحة من قبل المسؤولين وإنما حلولا يمكن أن وصفها بمحاولة الهروب إلى الإمام.
وتشعر وأنت تستمتع لأحاديث الحكومة والوزراء المعنيين بإدارة البلد، بأنهم يتحدثون عن وضع كارثي ومأساوي يعيشه العراق، وأن الأيام القادمة لا تبشر بخير وأننا نسير باتجاه المجهول. لكن المفارقة أن هذا الحديث يصدر عن مسؤول تنفيذي أعلى وليس من محلل اقتصادي أو سياسي، ويتحدث هذا المسؤول بطريقة مسترخية جدا تعطيك انطباعا بأنه لا يملك الحلول وغير قادر على عمل أي شيء.
لا أعرف توصيفا دقيقا لهذه الظاهرة، غير أننا يمكن أن نصفها بعمى السلطة، وهذه الحالة في العراق لم تعد لا شعوريا يصاب بها من هم في الحكومة والسياسيين، وإنما باتوا يتمسكون بها عن سابق عمد وإصرار. وإلا بماذا يمكن أن تفسر ورقة الإصلاح البيضاء الذي قدمها وزير المالية الدكتور علي عبد الأمير علاوي، وهو الخبير الاقتصادي وصاحب الشهادات من أرقى الجامعة والمشاركة الفاعلة في مؤسسات اقتصادية دولية، كما تشير إلى ذلك سيرته الذاتية، ورغم ذلك يقدم ورقة إصلاحية الرهان فيها على عامل الزمن، وهو العامل الرئيس الذي تفتقده حكومة الكاظمي!
إذ حتى المبتدئ في ألف باء السياسة يعرف جيدا، أن أوراق المشاريع الإصلاحية السياسية والاقتصادية إذا لم تكن ناتجة عن إرادة سياسية حقيقة لتجاوز أزمة النظام السياسي، فهي محاولة للهروب إلى الأمام، حتى ولو افترضنا صدورها عن نية حسنة، وهذا فرض المحال. فقواعد اللعبة بين الزعامات السياسية والحكومة في دولة لا يحكمها الدستور ولا الأعراف المؤسساتية، تكون فيها مشاريع أو أوراق الإصلاح مضيعة للوقت ومحاولة لامتصاص غضب الشارع وتنفيس على الأزمات.
وفي حسابات رجالات الدولة في إدارة الأزمات لا يكون الرهان على عامل الزمن، فهو دائما ما يكون رهان خاسر، ولا يراهن عليه إلا المغامرون. وبما أننا نفتقد إلى رجال دولة في العراق، نجد دائما خيارات سياسيينا لمواجهة الأزمات هو الهروب نحو المستقبل، ونقد الماضي، أما الحلول الآنية والمبادرات العاجلة فهي غالبا ما تكون تقليدية أو تبقى حبرا على ورق.
ويعشق السياسيون العراقيون الثنائيات المتعارضة ويعجبهم العيش في الحالة ونقيضها، فهم بيدهم السلطة والحكم ولكن المعارضة حاضرة في تفكيرهم وخطابهم وسلوكهم السياسي؛ بيدهم الدولة ومؤسساتها لكنهم يعملون على تنمية كل الأذرع والمافيات والسلوكيات التي تهدم الدولة؛ يريدون أن يكونوا حماة المذهب والطائفة والقومية وبالوقت ذاته يدعون أن همهم الأول هو بناء الوطن وحمايته من التقسيم؛ يدعون بأنهم أحرار في اتخاذ القرارات والمواقف التي تحدد مصير البلد، لكنهم لا يجتمعون ولا يتفقون لحسم المواضيع الحساسة إلا برعاية الأجنبي. ولا يمكن أن تستثني أحدا من الطبقة السياسية من حالة التناقض هذه فالشيعة والسنة والكرد جميعها تستهوي لعبة الدولة ونقيضها.
هذه محنة حقيقية في التفكير السائد في عالمنا السياسي المزري، ويبدو أن عدوى العيش في الحالة ونقيضها انتقلت إلى الحكومة، إذ لا يقل عن ذلك سوءا رؤية الحكومة للعنف الذي يهدد جميع مفاصل حياتنا اليومية، فهم يرون فيه، في أحسن الأحوال، على أنه مثالب تقنية في النظام الأمني، وهذه المثالب يمكن أن تحل بالتوافقات والصفقات مع قوى اللادولة.
وصحيح جدا أن الأمن قضية سياسية بالأساس، فهو يتعلق بشرعية الدولة في نظر المجتمع، وهو معيار رئيس لقوة أو هشاشة النظام السياسي، ولذلك يمكن أن يكون فرض الأمن هو أساس الإجماع الوطني وهو مفتاح أبواب إعادة الثقة بين المجتمع والدولة. ولكن عندما يكون قضية تخضع للمساومات والصفقات السياسية من أجل البقاء في الحكم فبالتأكيد ستكون الحكومة قد ضيعت الفرصة لفرض هيبة الدولة، وبهذا تكشف الحكومة والقوى السياسية عن رثاثة التفكير بالدولة وإدارتها وعلاقتها مع المجتمع.
ويبدو أن العدم نطق في العراق مجددا لأننا في مرحلة إفلاس الشعارات والعناوين التي كانت توهمنا بأنها تملك حلول لأزمات العراق. وبالتأكيد ستفقد الحكومة ثقة مواطنيها عندما تبقى تتذرع بوجود اختلالات مزمنة، وتفتقد القدرة على الحد من استمرارها أو مواجهة مستجداتها، وتوحي خطاباتها بأنها متفاجئة من حالة التدهور والفوضى وكأنما هي ليست من ضمن المنظومة السياسية التي كانت ولا تزال السبب الرئيس في تنمية الفشل والفساد في جميع مفاصل الحياة العامة وليس مفاصل الدولة فقط.
وما دامت الدولة العراقية أسيرة الانقسام والتشرذم والضعف والاختراق والفساد فلا إصلاح حقيقي إلا عندما تكون بدايته استعادة الدولة وفرض هيبتها. لذلك سيبقى العراقيون محكومون بجدلية محصورة ما بين تضخم العنف والخوف من المستقبل المجهول، يقابله ضمور بالآمل بالإصلاح والتغيير. وبعد أن كنا نتطلع إلى يوم تتم فيه مغادرة مثلث الفقر والبطالة والموت المجاني، فإن القادمات تنذر بعجز بتأمين معاشات المواطنين ومعارك انتخابية يتم التهيئة لها باستحضار خطابات التخوين وسجالات طائفية وقومية بات يغلفها السياسيون بعناوين مقدسة.