بقلم: د. ماجد السامرائي – العرب اللندنية
الشرق اليوم– تاريخ ملتبس عاشته مجموعات حُسبت على العرب السنة في العراق غامرت بدخول العملية السياسية في ظل الاحتلال الأميركي، وهي لا تملك من الإرث السياسي أي تجارب قبل عام 2003، بعضها كان مواليا بالانتماء أو التقليد للبعث ولنظامه، والبعض الآخر وجد في مؤسسة العشيرة المعهد الوحيد الذي يخرجه للتأهل، مثلما خرّجت الحسينيات ومعاهد إيران السياسيين الشيعة، في وقت كان من الطبيعي أن تكون مكانة الفعالية السياسية للأحزاب العراقية غير الدينية، كالحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني والتيار القومي العروبي، ممثلة ببعض الحركات الصغيرة وحزب البعث الذي أُقصي وجُرم منتسبوه.
معمار التكوّن السياسي الجديد لسنة العراق بنته العلاقة الفردية المشبوهة لبعض المعارضين لحكم صدام، مع ممثلي مشروع الاحتلال الأميركي وجهاز المخابرات السي.آي.إي، الذين حضروا إلى لندن، مطبخ تلك العلاقات، لبناء صفقة واجهة المعارضة لتسهيل مشروعهم الاحتلالي. كان الانحدار الخياني لأولئك مثيرا للقرف. فحصل الانقسام في أيام مؤتمر لندن للمعارضة، قبل شهر من الاجتياح العسكري الأميركي، بين السنة المعارضين لصدام، ممن تبوؤوا قبلها مراكز دبلوماسية ومسؤولي أجهزة استخبارية، وبين من كانوا تائهين في ظلام البحث عن مَن يوّفر لهم فرصة اللحاق بأي مشروع ينهي حكم صدام، حتى وإن كان ثمنه التخّلي عن الولاء للوطن.
دفعت علاقات التجسس والعمالة لأولئك الأفراد المعزولين مع المخابرات الأميركية إلى كسب آخرين مقيمين في واشنطن ولندن، خاصة من تنظيم الإخوان المسلمين الذي سُمي “الحزب الإسلامي العراقي” عندما انفتح أمامه طريق العمالة مثلما انفتح لبعض قادة حزب الدعوة، حيث سبقهم في ذلك المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة محمد باقر الحكيم.
عُقدت اجتماعات اللجان التحضيرية لمؤتمر لندن بإشراف السفير الأميركي زلماي خليل زادة، الذي حرص على الاستماع إلى المعمم محمد بحر العلوم، وممثلي المجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة، وتجاهل الملتحقين بهم من السنة، لكنه التقى بالوطنيين منهم، وحاول إقناعهم بالدخول إلى المؤتمر لكنه فشل، فقد كانت رؤيتهم الاستشرافية واضحة، وموقفهم الوطني سليما، رغم كلفه الشخصية اللاحقة. وكانوا يراهنون على مقاومة شعب العراق للاحتلال العسكري، لكن اللعبة كانت كبيرة في اختراق المقاومة من قبل زعامات سنيّة، مهدّت لدخول القاعدة وداعش في ما بعد، بترتيب إيراني متقن التنفيذ، قاده قاسم سليماني.
ارتضى الملتحقون من السُنة تجاهلهم وإقصاء بعضهم وعزلهم سياسيا في اجتماع أربيل، قبيل الاجتياح بأيام، بانتظار مكاسب المال والجاه، ثم غطّى الحزب الإسلامي “كوتة السنة” في الحكم الطائفي الجديد مثلما كان مدبّرا.
حين وقع الاحتلال، انفتحت كُوّات الدبابير السوداء من حدود العراق الشرقية، وكانت عناصر وأدوات الاحتلال الإيراني منتقاة بمواصفات الجهل والانتقام الدموي، وتراكض أشباه الرجال من السنة لدخول نادي المغانم، غير مكترثين بالدماء التي سالت من أبناء جلدتهم، وبعضهم وظّف ذكاءه الشخصي في الاحتيال والسرقة.
لم يمانع البعض الآخر من “المتدينين” السنة في تقمّص شخصيات المعارضين “الصامتين” ونسجوا لأنفسهم بطولات وهمية، لغياب الشاهد الحقيقي المُطارد من سلطة الاحتلال وأعوانها، واهتدى هؤلاء الهامشيون إلى ميدان الكذب والدجل، حين وجدوا سوقه رائجة، وتضامنوا مع أفواج الجهلة أتباع الإسلام الشيعي الإيراني، وقبل هؤلاء صفقة الأتباع لشيعة السلطة الطائفية.
لقد أُقيم العهد الجديد على قاعدة إن القيم الوطنية لا تُصرف في البنوك مثلما خاطبني شخصيا عام 1996 بالنص أحد رجال المخابرات الأميركية، حينما رفضت عرضه بمقايضة العمل التجسسي لصالح الولايات المتحدة مقابل الانضمام إلى مشروعهم في التغيير السياسي بالعراق. قلت له ليس كلّ المعارضين لنظام صدام يرتضون الدخول في نادي العمالة والتجسس.
كانت لعبة التبعية السنيّة للشيعة متقنة، لكن المشكلة كانت في كيفية توحيد كلمة شتات الضائعين، فحصل الخصام وكانت جلساتهم الخاصة عبارة عن حوار المقامرين الذين لا رصيد لهم، ولا يهّم بعضهم بيع بيته أو أولاده أو شرفه الشخصي من أجل الوصول إلى مغانم السلطة الجديدة، لأنه لا يمتلك رصيدا سياسيا وطنيا يؤهله لأن يكون القطب المعارض في المعادلة السياسية الجديدة.
عام 2005 وبعد الاستفتاء على الدستور الذي استعجله مرجع الشيعة السيستاني لغاية في نفسه، تكشفت بواطنها في ما بعد، رفضت المحافظات السنية الاستفتاء، وبينها الأنبار، التي كانت نسبة المشاركة فيها 2 في المئة رغم الشغل التسويقي المحموم للحزب الإسلامي. حضرنا جلسات حوار في عمان لبلورة موقف وطني واضح من الحكم الجديد، طرحنا خلاله مشروع جبهة وطنية تضع ثوابت العمل العراقي بعيدا عن المحاصصة الطائفية، التي استعجلتها الزعامات الشيعية تنفيذا لرغبة الحاكم الأميركي (بول بريمر) وطهران.
كان الطرف السني المستعجل للمشاركة في السلطة مندفعا إلى درجة غريبة، برروا دخولهم في العملية السياسية إلى درجة قول بعضهم: نقبل الدخول في المستنقع وتلطيخ “دشاديشنا”، المقصود ثيابنا، وابقوا أنتم على ملابسكم نظيفة، فنحن نعتقد بأن دخولنا سيّغير المعادلة. ثم أصبح في ما بعد هذا الشخص في الموقع الشرفي الشكلي، نائبا لرئيس الوزراء، معترفا بأنه لا يمتلك رأيا أو قرارا سياسيا.
المتورط الأكبر في شراكة شيعة السلطة هو تنظيمات وولاءات الإسلام السياسي السني، التي كانت في حالة من الاندفاع أغمض عيونها، في السنوات اللاحقة، عن جرائم قادة الأحزاب وميليشياتها ضد المواطنين من قتل واختطاف وتهجير. كانوا مبتهجين بتلك المشاركة وليست الشراكة، إلى درجة قبول تعليمات قاسم سليماني لقاء أن يتحول أحدهم من مطلوب، وفق المادة أربعة، بتهمة الإرهاب إلى رئيس برلمان العراق.
كان مؤشّر انحدار شيعة السلطة مدّويا بسبب التخريب المبرمج للإنسان العراقي بلعبة التمايز الطائفي والترويج لنظرية “الشيعة يحكمون العراق إلى الأبد”. وبسنوات قليلة، رغم مرارتها على العراقيين، انتهى دور أحزاب الإسلام الشيعي في إدارة الحكم في العراق، رغم المراوغة لتمديد زمن تلك النهاية الرسمية، وعدم اعترافهم بهذه الحقيقة الحتمية، وقد تكون ولاية مصطفى الكاظمي آخر فصول هذا الحكم، لأن تضحيات الشعوب لا تذهب في مهب الريح، كشفت ذلك ثورة عصر العراق الجديد، ثورة أكتوبر الشبابية، ولم يبق من شوط تلك النهاية الحتمية سوى القليل.
هذه الحقيقة المرّة تتلمس ملامحها الزعامات السنية، التي هرم بعض شخوصها وأثقلت كواهلهم خزائن المال المسروق، التي ستظل إحدى علامات الفضيحة لسنة السلطة، حتى وإن كانوا على هوامشها، ومحاولتهم التبرئة من ثقل تبعاتها عليهم، محاولين الإيحاء بأن ما يحصل بما يسمى “حرب شيعية شيعية” لا يمسّهم وهم بعيدون عنها وبراء من تبعاتها لأنهم، وفق إدعاءاتهم، خارج “السلطة الشيعية”، ضاربين على وتر “أن الناس تنسى بمرور الأيام”، ولأنهم لا يشعرون بمعاناة الثكالى، وفقدان مئات الألوف لمنازلهم في عمليات التهجير والتغيير الديموغرافي للمدن ذات الأغلبية السكانية السنيّة.
الضائعون منذ بداية عهد الاحتلال وتسّيد شيعة السلطة يدّعون الآن بأنهم يمثلون السنة المهمشين، ويفتشون في خزائن فقهائهم عن ديباجات لبيانات انتخابية مُبكّرة ذات نبرات معارضة لكسب الجمهور السني الذي لفظهم في حزمة واحدة مع شيعة السلطة.
شباب العرب السنة، أبناء أكثر من مليون شهيد ومُغيّب، كان بعضهم طفلا رضيعا حين فقد أباه، وهو اليوم عاطل عن العمل ومحروم من الحقوق الإنسانية، يواجه موجات البرد في مخيمات النزوح مع أهله، هؤلاء لن تمرر عليهم بعد اليوم لعبة سُرّاق الوطن. الجيل الجديد من أبناء العرب السنة سيفاجئ أصحاب الكراسي المذهبة، ويزيحهم عن الطريق، ولن تنفع أموالهم المسروقة من جياع الناس، أو القادمة من الدوحة، رغم المستقبل الغامض لهذا التمويل بعد مناخ المصالحات الخليجية مع تل أبيب، أو تراجع الدعم التركي المُبتلى حاليا بتورطاته الخارجية. جيل النزوح والاضطهاد والحرمان، في الأنبار والموصل وصلاح الدين وديالى وكركوك، لا يعرف لغة الكذب والمراوغة، وسيقول كلمته الأخيرة في الانتخابات المقبلة، حينها ستنتهي رحلة ضياع سنة السلطة على هوامش التاريخ المُذلة.
جميع ما ورد في المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب فقط