بقلم: د. باهرة الشيخلي – العرب اللندنية
الشرق اليوم- اتفقت ساحات التظاهر العراقية جميعها، مؤخرا، على الخروج بمطلبين أساسين في ساحة التحرير وباقي المحافظات المنتفضة وهما: إسقاط النظام الحالي، ومحاكمة قتلة المتظاهرين.
وعدّت هذه الساحات كل من يشتت مطالب المتظاهرين تابعا لأحزاب السلطة وهو، تاليا، لا يمثلها.
وتأتي هذه الخطوة ردا على محاولات الأحزاب الطائفية التشبث بالسلطة، وإيجاد أغطية جديدة تغطي عيوبها، بعد أن مزق الحراك الشبابي غطاءها الذي تسترت به طوال 17 سنة، وهو ذريعة الدين والطائفة والمرجعيات الدينية.
ويحاول أغلب هذه الأحزاب وضع العصى في عجلة الانتخابات المبكرة، التي أعلن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في 30 يوليو الماضي، أنها ستجري في السادس من يونيو المقبل 2021.
ذكرت دراسة بحثية نشرها مركز EPC، وتابعتها صحيفة “مدارات الثورة”، الموجهة إلى المتظاهرين العراقيين، في العاشر من الشهر الحالي، المسارات المحتملة للقوى الشيعية، التي بدأت بترتيب أوراق تحالفاتها استعدادا للانتخابات المقبلة، مشيرة إلى أن “رئيس تحالف الفتح هادي العامري، يسعى إلى دخول الانتخابات تحت يافطة مدنية”، فيما قدمت تقريرا استشرافيا لخطابات ائتلاف دولة القانون، وباقي القوى الولائية، وتحالف النصر وتيار الحكمة.
والواقع، أن الاحتجاجات الشعبية، قلبت موازين العملية السياسية، ودفعت غالبية القوى الشيعية إلى تبني خطاب جديد، كنوع من المراوغة، والتماشي مع الخطاب الجديد للشباب العراقي، وصعود الروح الوطنية.
ولكن في الوقت الذي تعمل فيه القوى الشيعية على إعاقة عقد الانتخابات التشريعية المبكرة في الموعد المحدد، من خلال الإجراءات البرلمانية، فإنها تخطو خطوات موازية للتحضير للانتخابات المقبلة في حال عقدها.
ويبدو أن حركة الاحتجاج في العراق قلبت موازين العملية السياسية والانتخابية تحديدا، إذ أخذت غالبية القوى الشيعية تراوغ في خطاباتها تجاه الجمهور الناقم على الأوضاع العامة في البلاد، ووصلت المراوغة إلى حدّ تعمية الهوية السياسية للأحزاب من خلال تشكيل كيانات بديلة أو رديفة لكياناتها الأم، من أجل الخروج من المعركة الانتخابية المقبلة بأقل الخسائر، والحفاظ على ما تبقى من مكتسبات السلطة المتداعية في العراق.
وتعمل قوى التشيع السياسي، بشقيها، الموالي لإيران أو المناوئ لها، منذ أشهر على تهيئة أوضاعها السياسية المقبلة بما يتلاءم مع الواقع المستجد، فبدأت تتحسس الخطر في ظل تنامي قاعدة الاحتجاج الشعبي، سواء في ساحات التظاهر أم في مواقع التواصل الاجتماعي، وتقوم اليوم بلملمة صفوفها، والتفكير بكيفية المشاركة في الانتخابات المقبلة وتحت أي مسمى أو هوية انتخابية.
وتسعى منظمة بدر، التي يتزعمها هادي العامري، وذات البنية العقائدية المتزمتة، إلى دخول الانتخابات تحت يافطة مدنية، ويحاول العامري التقرب من قوى مدنية صغيرة (خاسرة في كل انتخابات، مثل الحزب الوطني الديمقراطي والحركة الاشتراكية العربية) للخروج بقائمة انتخابية ذات ملامح وطنية تزيح عن أذهان الناس الطابع العقائدي الولائي الميليشياوي المعروف عن المنظمة.
أما الفصائل الولائية، التي تضم “عصائب وكتائب الإمام علي، وكتائب سيد الشهداء، وحركة السند، وحركة الجهاد والبناء والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي”، فتعمل على تأسيس تشكيل انتخابي جديد تحت مسمى “جهادي وطني” ذي أهداف مناطقية، لكسب مزاج الناخبين العراقيين في المحافظات الجنوبية والفرات الأوسط.
ومنذ الانتخابات الماضية اتجه ائتلاف “دولة القانون” بزعامة نوري المالكي، إلى دعم خط شبابي يمثله صهر المالكي، النائب الكربلائي ياسر المالكي، الذي يرأس حركة شبابية تحت مسمى “البشائر”، ويحاول هذا النائب الشاب إعادة تأهيل نفسه مجددا للانتخابات المقبلة، من خلال تبني خطاب إعلامي يعارض، ظاهرا، خطاب “اللا دولة”. فيما شكّل تيار “الحكمة” بزعامة عمار الحكيم في الحقبة الأخيرة، كتلة نيابية تدعى “عراقيون”، تضم نوابا من كتلة “إرادة” بزعامة حنان الفتلاوي، وكتلة “النهج”، وهي كتلة حزب الفضيلة سابقا، لإسناد الحكومة الانتقالية داخل البرلمان.
ويُعد “الحكمة” التيار الأكثر تقلبا في كل موسم انتخابي من حيث التجديد السياسي، ويحاول، هذه المرة، إنتاج تيار ظلي لتياره الرسمي، إذ أناط لأحد قياديّيه السابقين، وهو صلاح العرباوي، مسؤول المكتب التنفيذي في تيار الحكمة، قيادة تيار جديد تحت مسمى “وعي”، لكسب الشباب الاحتجاجي والشخصيات ذات التأثير في الإعلام التقليدي والإعلام الاجتماعي.
وكان العرباوي قد أعلن في 24 أبريل الماضي انسحابه من الحكمة لعدم قناعته بالعمل الحزبي، كما صرح. ويمكن أن يتلاقى تيارا “وعي” و”الحكمة” تحت مظلة انتخابية تجمعهما والقوى المتحالفة معهما في تكتل “عراقيون”، والنزول بصيغة توافقية، يكون الرابح الأكبر هو حزب الحكيم الرسمي بعد أن ينال أصوات حلفائه الصغار، بحسب الدراسة البحثية لمركز EPC.
أما تحالف “النصر” بزعامة حيدر العبادي، فلم ينشئ، إلى الآن، تيارا ظليا له، لأن استراتيجية هذا التحالف تقوم على مخاطبة الجمهور المدني الشيعي في العاصمة بغداد ومدن الفرات الأوسط بالخصوص، ويحاول التحالف الارتكاز على وجوهه الرئيسة كزعيمه حيدر العبادي، والقيادي النجفي البارز عدنان الزرفي.
يعي العراقيون، تماما، أن هذه التحالفات، التي تجري تحت لافتات مدنية زائفة، هي استمرار للعبة امتدت، منذ سنة 2003 إلى الآن، وتطمح إلى أن تستمر مستقبلا.
هذه ليست المرة الأولى، التي يغير فيها أشخاص العملية السياسية جلدهم، قبل الدخول في الانتخابات على أمل خداع الناس ومنحهم الثقة مرة أخرى.
وكما قال لي السياسي العراقي عوني القلمجي، لجأ مقتدى الصدر، الموالي لإيران، بعد إدراكه استياء الناس من رجال الدين والعمائم، إلى الحزب الشيوعي العراقي المتلاشي لتلوين عمامته بلون العلمانية، ودخل الانتخابات الماضية تحت قائمة سماها “سائرون”، ووضع برنامجا يتحدث عن بناء الدولة المدنية. وعندما فاز في الانتخابات تحالف مع قوائم الأحزاب الطائفية أمثال هادي العامري، وعمار الحكيم، لتشكيل الكتلة الأكبر.
واليوم وبعد انطلاقة ثورة تشرين والمطالبة بسقوطهم وجدوا أنفسهم بحاجة إلى الدخول في اللعبة نفسها، لكنهم تناسوا أن من بين أهم شروط الثوار لإجراء الانتخابات منع هؤلاء جميعا من المشاركة فيها، بل ورفض كل من شارك في العملية السياسية منذ الاحتلال وإلى حد اليوم.
هذا، أيضا، ليس مطلب الثوار وحدهم، بل إن المرجع الشيعي كمال الحيدري، أعلن وقوفه الكامل مع مطالب المحتجين، وطالب الشعب العراقي بعدم السماح لأي جهة فاسدة شاركت في عمليات الفساد بمختلف تلوناتها من أحزاب وتيارات وهيئات.. بمختلف مرجعياتها بركوب الموجة.
ورغم أن إقرار قانون الانتخابات الجديد يعد إنجازا لحركة الاحتجاج الشعبية، إلا أن القوى السياسية المتضررة من القانون الجديد ستحاول أن تلتف عليه في مرحلة الاتفاق على عدد الدوائر الانتخابية، ومن المتوقع أن تشهد تلك المرحلة صفقات سياسية بين القوى الكردية والقوى الشيعية الموالية لإيران، تقوم على دعم الأكراد مرشح كتلة “البناء” لرئاسة الحكومة مقابل رسم دوائر انتخابية لصالح إقليم كردستان في المناطق المتنازع عليها، وفق أستاذ إعلام واتصالات عراقي، متوقعا ألا تؤدي الانتخابات البرلمانية المقبلة إلى تغيير الواقع السياسي في العراق ما لم تتمكن ساحات الثورة الشعبية من تنظيم تيار وطني يتم الترشُّح على أساسه في كل الدوائر الانتخابية.
خلاصة القول: تواصل ثورة شباب أكتوبر رسالتها وتشق طريقها وسط غابة الميليشيات وأجهزة السلطة، وفي هذا الخضم من القوى المناهضة للحرية والعدالة، يتطلع شباب أكتوبر إلى الغد باستعادة وطنهم وإعادة الاعتبار إليه.
وكانت مطالب شباب الحرية هي حل الهياكل الفاسدة، مجلسي الوزراء والبرلمان، وتطهير القضاء، الذي فقد مصداقيته، بعد أن حوله الحكام المتعاقبون على السلطة منذ سنة 2003 إلى دكان سياسي.