بقلم: نيل كويليام – الشرق الأوسط
الشرق اليوم- يبدو الاتحاد الأوروبي خارج نطاق الخدمة الدبلوماسية عندما يتعلق الأمر بتناول أعمال القتال التي اشتعلت بين أذربيجان وأرمينيا، التي اشتعلت من جديد في سبتمبر (أيلول) الماضي.
ومع ذلك، لا يملك الاتحاد الأوروبي رفاهية الوقوف ساكناً حيال هذه الأزمة، ذلك أنه بالرغم من أنه لم يكن يوماً أكثر من مجرد عنصر هامشي في إطار الصراع المستعر منذ فترة بعيدة، فإن الترابط القائم اليوم بين جنوب القوقاز وأوروبا يجعل هذه القضية أشد إلحاحاً بكثير.
وحتى اليوم، رفعت فرنسا لواء الاتحاد الأوروبي، خاصة باعتبارها دولة عضواً في «مجموعة مينسك» التابعة لمنظمة التعاون والأمن في أوروبا والتي تضم في عضويتها أيضاً روسيا والولايات المتحدة. وبطبيعة الحال، تركت حالة التنافس المتنامية بين فرنسا من جهة، ومن جهة ثانية تركيا الداعمة لأذربيجان بقوة من منطلق العلاقات التاريخية والثقافية الوطيدة بينهما والتعاون الوثيق بمجال الطاقة، تأثيراً واضحاً على التوجه الفرنسي إزاء الأزمة وعزز دعوات فرض عقوبات ضد أنقرة.
ورغم أن باريس ربما تكون لديها حجة جديرة بدراستها، فإنها لا تبدو مناسبة تماماً في التعامل مع الصراع الدائر في إقليم ناغورنو – قره باغ. لذلك، يتعين على الاتحاد الأوروبي اتباع توجه أكثر دقة ويعكس شعوراً بإلحاحية أكبر إزاء هذا الصراع، خاصة أن تبعاته قد تترك أصداءها بوضوح عبر أرجاء أوروبا.
وتهدد الجولة الحالية من أعمال العداء بين أذربيجان وأرمينيا، والتي عادة ما كانت تتولى «مجموعة مينسك» التعامل معها لكنها غابت إلى حد بعيد حتى اليوم بسبب عدم اهتمام الرئيس الأميركي ترمب بالأمر، باجتذاب مجموعة أوسع نطاقاً من العناصر الفاعلة عما كان عليه الحال في الماضي. ورغم أن لب الصراع يتركز حول جيب ناغورنو – قره باغ، الذي تسيطر عليه أرمينيا داخل أراضي تخضع للسيادة الأذربيجانية، فإن ثمة مخاطرة اليوم بأن يتحول الصراع إلى جزء من صراع أكثر اتساعاً بكثير بين الدول المتحالفة إما مع أنقرة أو مع باريس.
ولا يخفى على أحد أن هناك منافسة مشتعلة بين تركيا وفرنسا تظهر تجلياتها في شمال أفريقيا ومنطقة الهلال الخصيب وحوض البحر المتوسط. واللافت أن السياسة الخارجية القوية لتركيا، والتي تبدو غير معبرة عن أوضاعها الاقتصادية الداخلية، عمدت إلى استعراض القوة العسكرية والتوغل في العديد من المناطق، مثل سوريا وليبيا وقطر والآن أذربيجان. وغالباً ما جاء ذلك، بناءً على حسابات بأن أياً من القوى الكبرى لن يعارض ذلك بخلاف روسيا.
ومن خلال ذلك، عمدت تركيا إلى استغلال الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة في أغلب الحالات، بجانب حالة القصور الذاتي التي تحول دون اتخاذ الاتحاد الأوروبي إجراءات حاسمة. وعليه، جاء الدعم القاطع من جانب الرئيس التركي إردوغان لأذربيجان، مادياً ودبلوماسياً، متوقعاً تماماً وأثار رد فعل قوياً من جانب الرئيس الفرنسي ماكرون الذي أولى دعمه لأرمينيا وسكان إقليم ناغورنو
– قره باغ الذين ينتمي غالبيتهم للأرمن.
وفي إطار النهضة التي تعمل فرنسا على إنجازها على صعيد سياساتها الخارجية، ومساعيها لتعويض سلبية الاتحاد الأوروبي، استعرضت باريس قوتها في منطقة الساحل بأفريقيا وشمال أفريقيا وحوض البحر المتوسط ومنطقة الهلال الخصيب، وذلك سعياً ليس فقط لتعزيز مصالحها الوطنية المباشرة، وإنما كذلك لكبح جماح الطموحات التركية.
واليوم، ثمة تنافس مشتعل بين البلدين على النفوذ، في الوقت الذي يقف الاتحاد الأوروبي في الغالب على الهامش بينما يسبقه طرفا الصراع في سرعة التحركات والمناورات. من ناحيتها، انتهجت باريس سياسة خارجية وأمنية واضحة وصريحة، وفي خضم ذلك وضعت مصالحها في جانب ما يمكن وصفه بأنه تحالف مناهض لتركيا عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويضم الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر والجيش الوطني الليبي، وهي أطراف تشارك جميعها في صراع اقتصادي وثقافي وسياسي وآيديولوجي أوسع نطاقاً مع تركيا.
وفي ذلك الإطار، نجد أن قضية ناغورنو – قره باغ التي يعود تاريخها إلى عام 1988 على الأقل، تواجه اليوم مخاطرة التداخل مع صراعات مشتعلة بالفعل في ميادين أخرى، منها سوريا ولبنان والقرن الأفريقي وشرق حوض البحر المتوسط، لكن بمشاركة ذات الشخصيات الدرامية.
في الواقع، تولت تركيا تيسير مقاتلين سوريين إلى كل من ليبيا والآن أذربيجان وتعمل فعلياً على محاكاة النموذج الإيراني المتعلق برعاية عناصر لا تتبع دولاً للقتال في ميادين أجنبية. في الوقت ذاته، عززت دول عربية علاقاتها مع أرمينيا في السنوات الأخيرة، ومن المحتمل أن تساند الجهود الفرنسية للحشد، على الأقل دبلوماسياً، ضد أذربيجان، إن لم يكن مادياً.
ومثلما الحال في صراعات أخرى، تبقى روسيا حاضرة، لكن في هذه الحالة وفي الوقت الذي تتحالف على نحو وثيق مع أرمينيا، فإنها تمد البلدين بالسلاح. وليس لدى روسيا مصلحة في رؤية أي من البلدين ينتصر على الآخر. ولذلك، سيتعين على روسيا العمل بحرص على إدارة علاقاتها مع تركيا التي شهدت توتراً بالغاً بعد إسقاط تركيا طائرة روسية هجومية طراز «سوخوي إس يو – 25 إم» في سوريا عام 2015.
إلا أنه منذ ذلك الحين توصلت الدولتان إلى تفاهم يسمح لهما بنشر قوات تشارك مع أطراف متقابلة في سوريا وليبيا، والآن ناغورنو – قره باغ. وفي تلك الأثناء، قد يعني الدعم الإيراني لأرمينيا أن مصالحها في هذه المسألة على وجه التحديد تتوافق مع مصالح دول تعارضها في المنطقة.
وبالنظر إلى الارتباط القائم بين هذه الصراعات، هناك إمكانية متزايدة بأنه من دون ضغوط دبلوماسية من قبل «مجموعة مينسك»، التي يبدو أنها تفتقر إلى الفاعلية في الوقت الراهن، من الممكن أن يتفاقم هذا الصراع ليصبح صراعاً مشتعلاً بقوة لفترة طويلة. ومن الممكن بسهولة أن تتحول المنطقة إلى سوريا أو ليبيا جديدة، وإن كان الصراع هنا لن يكون حرباً أهلية مثلما الحال في المثالين السابقين، وإنما حرباً تقليدية بين دولتين تجتذب إليها دولاً أخرى لا تملك النفوذ المهيمن الذي يمكنها من وقف القتال أو الحيلولة دون ظهور جيل جديد من اللاجئين يتجه غرباً. وعليه، فإن هذا الوضع يشكل تهديداً لمصالح الاتحاد الأوروبي ومشروع «الشراكة الشرقية» التابع له.
ورغم أن الاتحاد الأوروبي مستنزف بالفعل في أزماته وربما يبدو الصراع بين أذربيجان وأرمينيا هامشياً فيما يخص مصالحه، فإن هذا الصراع لا يجتذب عناصر جديدة فحسب، منها تركيا الآخذة في استعراض قوتها على نحو متزايد، وإنما سيتسبب في نزيف عبر ميادين تنافس وقتال أخرى قريبة من الحدود الأوروبية، بجانب تسببه في زعزعة استقرار منطقة أخرى ما يعزز الشعور بـ«أوروبا المتمترسة».
وفي ظل فقدان الولايات المتحدة اهتمامها بالشأن العالمي وتشتت انتباهها باتجاه قضايا أخرى، أصبح لزاماً على الاتحاد الأوروبي تعزيز جهوده والمشاركة بدلاً عن ترك المناطق المجاورة له فريسة في أيدي القوى المجاورة المتنمرة.
والمؤكد أن الدعوة التي أطلقها الممثل السامي للاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل للوقف الفوري لأعمال القتال ونزع التصعيد والالتزام الصارم بوقف إطلاق النار، ليست كافية.