بقلم: د. باهرة الشيخلي – العرب اللندنية
الشرق اليوم– يتوقع حقوقيون واقتصاديون وخبراء صحة أن الحكومة العراقية، إذا أرادت، فعلا، مواجهة مشكلة المخدرات المتفاقمة في البلاد، ستجد نفسها مضطرة إلى العودة إلى القوانين، التي كانت سائدة قبل الاحتلال للسيطرة عليها، وإلغاء قانون المخدرات والمؤثرات العقلية رقم 50 الذي أصدرته سنة 2017.
قبل احتلاله، كان العراق يفرض عقوبة الإعدام على متعاطي المخدرات وتجارها لكن الحكومة في العراق سنت في 2017 قانونا يمكن بمقتضاه أن يأمر القضاة بعلاج المتعاطين في مراكز التأهيل أو الحكم بسجنهم مدة تصل إلى ثلاث سنوات.
أصبحت “صناعة المخدرات وتجارتها واسعتين في البلاد وبخاصة في الوسط والجنوب” كما يؤكد المحامي ناظم كريم، الذي يضيف أن “عصابات المخدرات في البلاد لديها خبرة وهي مسلحة وربّما تتلقى الدعم حتى من شخصيات متنفذة، لذا ليست من السهولة السيطرة عليها”، مشيرا إلى أن “الفساد المستشري في البلاد كان له الدور الكبير في تنامي هذه الصناعة تجارة وتعاطيا، لأن الرشاوى والمحسوبية من ضمن أنشطة هذه العصابات”.
ربما أن المحامي كريم، خوفا على أمنه الشخصي، لم يشر إلى الدور الإيراني وأحزاب الإسلام السياسي في ترويج هذه التجارة والتشجيع على تعاطيها.
في كتابه الماثل للطبع “يوم الحساب العسير”، يقول أستاذ الفلسفة وتاريخها في جامعة بغداد قبل الاحتلال الدكتور عبدالستار الراوي “فجر الاحتلال الأميركي في التاسع من أبريل 2003، حدثت فوضى عارمة وانفلات أمني مريع، هيأ فرصا لا حدود لها، أمام بضاعة الموت، فأصبح العراق سوقا حرة لترويج السموم البيضاء وتجارتها، داخليا وخارجيا، تقف وراء تداولها وترويجها عصابات الجريمة المنظمة، وتشرف على بعضها أحزاب الإسلام السياسي، المرتبطة بتنظيمات خارجية لها أهداف أكثر من تهديم بنية المجتمع العراقي وطليعته من الفتيان والشباب، مستفيدة من كثرة العصابات والجماعات المسلحة لتنشط حركة مافيا المخدرات وتجعل العراق محطة ترانزيت نحو دول الخليج ودول إقليمية أخرى، بالإضافة إلى تكوين سوق حرة داخلية”.
هناك دلائل تشير إلى تحول طريق الحرير القادم من شرق آسيا والمار عبر العراق، إلى طريق للمتاجرة بالمخدرات والسلاح والآثار العراقية وتهريب النفط المسروق، من قبل عصابات منظمة تخصصت في هذه الأعمال ولها ارتباطات واسعة مع العالم، بما في ذلك حكومات بعض الدول.
الأسبوع الماضي، أعلن الناطق الرسمي لوزارة الداخلية اللواء خالد المحنا، أن العمليات الاستخباراتية الاستباقية والحملات التي تتبعها الأجهزة الأمنية وآخرها في البتاوين، وسط العاصمة بغداد، هي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، منوها إلى أن عملية البتاوين جرت بإشراف وزير الداخلية الفريق عثمان الغانمي، ونفذت بدقة وتكللت بإلقاء القبض على العديد من عناصر الجريمة المنظمة في منطقة البتاوين ببغداد.
إن بعض المقبوض عليهم، كما يقول المحنا، كانوا من المتسببين في انتشار جرائم المخدرات والاتجار بالأعضاء البشرية فضلا عن أن بعضهم من أرباب صالات القمار ومحال الخمور، التي تم غلقها.
قلل عراقيون كثيرون من جدوى حملة البتاوين، مستندين إلى أن بعض المناطق في بغداد والمحافظات أصبحت أمكنة موبوءة ومرتعا لعصابات الجريمة وبيع الممنوعات ونشر المخدرات والممارسات والأعمال غير الأخلاقية.
اقتصاديا، فإن السم الأبيض يترك آثارا قاتلة على اقتصاد البلدان، ولا تستفيد منه سوى الدولة المصدرة له، حتى أصبح سلاحا تقاتل به بعض الدول أعداءها، وكما قال لي الاقتصادي العراقي المعروف الدكتور محمد طاقة، فإن الاتجار بالمخدرات والإنفاق الدولي المترتب عليها، يهددان الاقتصاد العالمي برمته، حيث بلغ حجم الإنفاق على هذه التجارة نحو 700 مليار دولار سنويا، وهو مبلغ ضخم جدا، لو وجه إلى أغراض تنموية لمصلحة الإنسانية.
من المعروف أن أي تنمية اقتصادية تعتمد على العديد من العناصر، أهمها الموارد المادية والموارد البشرية فضلا عن الإدارة وغيرها، والمخدرات تستهدف أهم العناصر الإنتاجية، وتبدد الموارد المالية للدولة وتستنزف مواردها من العملات الصعبة.
وعلى العكس بالنسبة للدول المصدرة لها في السوق السوداء، كإيران وأفغانستان فإنها تجني منها مبالغ ضخمة تقدر بمليارات الدولارات، وعلى وجه الخصوص أفغانستان، التي تعد أكبر منتج للمخدرات في العالم، وما تحصل عليه من زراعة الأفيون وغيرها من الأنواع يضاهي إيرادات أي دولة من النفط الخام، فيما تعدّ إيران من أولى الدول المتاجرة بالمخدرات وهي تحصل على موارد جدية من العملات الصعبة، وبذلك تتمكن من تمويل أذرعها في المنطقة، كما يقرر طاقة.
معروف أن شحنات الكريستال تدخل إلى العراق، ليس من الأرجنتين البعيدة عن العراق، كما زعم رئيس الحكومة السابق في العراق عادل عبدالمهدي، وإنما من إيران بوساطة تجار متخصصين بتهريب المخدرات، وتساعد هؤلاء التجار في إدخال الكريستال سهولة نقلها وضعف الإجراءات الرقابية في المنافذ الحدودية، وهناك موادّ أخرى لها سوق في المدن العراقية منها الحشيش والهيروين، لكن نسب تعاطي الأخيرين قليلة جدا مقارنة بالكريستال، لأنها موجودة في بلدان بعيدة ويصعب نقلها إلى العراق.
وشهد العراق، بعد الاحتلال، تفجير الميليشيات الإيرانية محالّ بيع الخمور، بنحو لافت، لتسهيل انتشار تجارة المخدرات، وهو أمر يعرفه العراقيون جميعا، ولكن اختراق العراق عن طريق المخدرات، بدأ عقب نهاية الحرب الإيرانية العراقية ونشطت المجموعات الإيرانية في التسلل والتهريب بقيادة خلايا الأحزاب النائمة، خلال سنوات الحصار، لكن مؤسسات الدولة كانت لها بالمرصاد، فضلا عن الحصانة الاجتماعية.
من أراد الاطلاع على خارطة السموم البيضاء، كما تذكر دراسات المنظمات الدولية، فعليه أن يفتش عنها في الأحزاب الدينية، التي خصصت أجهزة تابعة لها لإدارة ترويج المخدرات من الألف إلى الياء، دورة كاملة من عمليات منتظمة وفق آلية عمل ما بين قوة القدس (الحرس الثوري) وأحزاب إيران وبعض مؤسسات الحكومة (التجهيز، الإعداد، منافذ التهريب) ثم دور مافيات الأحزاب وميليشياتها للقيام بمهمات، الترويج، والتوزيع.. إلخ.
وهكذا حوّلت أحزاب ولاية الفقيه العراق إلى مركز رئيس، ليس للترويج في داخل العراق فقط، بل أيضا إلى مملكة للمخدرات تصدر موتها الأبيض إلى الخليج العربي وإلى بلاد الشام.
وتنذر تقارير عالمية بأن المشكلة ستزداد خطورة وسوءا في ظل جائحة كورونا، ففي تقريره العالمي للمخدرات لسنة 2020، أكد مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) أن تأثير جائحة كوفيد – 19 على أسواق المخدرات غير معروف تماما حتى الآن، إلاّ أن القيود الحدودية والقيود الأخرى المرتبطة بالتصدي لها، تسببت في نقص فعلي في المخدرات في الشوارع، مما أدى إلى زيادة الأسعار وانخفاض في درجة النقاء.
إن الوباء “تسبب في نقص المواد الأفيونية مما قد يؤدي إلى بحث الأشخاص عن المواد المتاحة بسهولة أكبر مثل الكحول أو (البنزوديازيبينات) أو الخلط بالعقاقير الاصطناعية، وقد تظهر أنماط استخدام أكثر ضررا مع تحول بعض المستخدمين إلى الحقن، أو الحقن بنحو متكرر”، كما يتوقع التقرير.
كان القضاء العراقي قد أصدر تقريرا أشار فيه إلى “تزايد خطير” في ظاهرة تعاطي المخدرات لاسيما النوع الذي يطلق عليه اسم الكريستال، بخاصة في صفوف شبان الأحياء الفقيرة، إذ بلغت المعدلات في الرصافة وحدها نحو 50 قضية خلال اليوم الواحد.
يعد مخدر الكريستال من أكثر أنواع المخدرات رواجا في البلاد، فبعد أن كان العراق ممرا للمخدرات إلى الدول المجاورة بات الآن من أكثر دول المنطقة استهلاكا لهذا النوع من المخدرات، حسب مكافحة المخدرات التابعة لوزارة الداخلية.
ملخص القول إن الإجراءات التي اتخذتها حكومة الكاظمي بمهاجمة أوكار صغار المتاجرين بالمخدرات، وفي منطقة واحدة صغيرة هي البتاوين وسط بغداد، من دون المساس بكبار المتاجرين، وهم في الغالب متنفذون في الدولة، لا تبشر بعلاج سريع لهذه المشكلة المستفحلة، وسيظل تأثيرها كبيرا على الاقتصاد العراقي، والمستفيد هو إيران، التي تمول أذرعها من هذه التجارة القاتلة.