بقلم: خطار أبو دياب
الشرق اليوم- يجهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإنقاذ مبادرته اللبنانية بعدما وضع رصيده السياسي في الميزان من خلال رهانه على المنظومة السياسية اللبنانية للتعجيل بتأليف “حكومة مهمة” تهدف لتمرير الإصلاحات المطلوبة ومنع الانهيار المرتسم في بلاد الأرز. ويتضح من خلال مسار تأليف الحكومة العتيدة أن العوائق الخارجية والداخلية تضع المبادرة الفرنسية على المحك وأن احتمالات الفشل تزداد وفي مطلق الأحوال فإن حصول الاختراق لا يعني أن درب حكومة مصطفى أديب سيكون معبدا إزاء أزمة اقتصادية – نقدية – اجتماعية غير مسبوقة وأزمة نظام وأزمة دور وأزمة علاقة بالمحيط العربي. والأدهى بالنسبة للمبادرة الفرنسية افتقارها للتأييد الأميركي والرضا العربي، وعدم إمكان تعويلها على أهلية شركاء لبنانيين متخصصين في تضييع الفرص وعلى دور المحور الإيراني الذي يأخذ لبنان أسيراً.
تفاقم الوضع بعد تفجير المرفأ المدمر وتعمق المأزق السياسي – الاقتصادي. بينما باتت البلاد على شفير الهاوية وأصبح الانهيار مسألة وقت، اندفع الرئيس الفرنسي على وقع هول الكارثة في محاولة لإيجاد مخرج للأزمة المستعصية لأنه مسكون بالتاريخ ومزيج من العاطفة والمسؤولية حيال كيان أسسته فرنسا المنتدبة قبل قرن من الزمن وتربطه صلات ثقافية وإنسانية ببلاده، إضافة إلى موقعه الجيوسياسي المميز في منطقة شرق المتوسط حيث تدور لعبة أمم جديدة يحاول إيمانويل ماكرون حجز موقع متقدم لبلاده فيها.
ومما لا شك فيه أن “سيد الإليزيه” كان يعتمد ضمناً على الصلة التي نسجها مع إيران وربما راهن على أن موقفه المنفتح تجاهها ودفاعه عن “الاتفاق النووي” يسهلان له الأمر مع وكيلها اللبناني “حزب الله” النافذ في المؤسسات بمجرد “الحوار معه والاعتراف بالتمثيل الشعبي لجناحه السياسي”. لكن تبين مع الوقت أن المنظومة السياسية التي كادت تتعرض لضربة قاضية بعد “فضيحة المرفأ” استفادت من المبادرة الفرنسية لتعويم وضعها، وأن حزب الله الذي كان في وضع صعب اشترى وقتاً ثميناً من سبعة أسابيع (من أصل المهلة التي كانت تفصلنا عن الانتخابات الأميركية) ولم يتم الإيفاء بالتعهدات التي التزم القادة السياسيون باحترامها والذين كانوا قد اجتمعوا بماكرون في قصر الصنوبر. وهكذا كما كان متوقعاً، سهّل هؤلاء الممسكون بتلابيب النظام اللبناني الدور الفرنسي عبر الموافقة على اختيار الدكتور أديب رئيسا مكلفا للحكومة عشية زيارة ماكرون الثانية أوائل هذا الشهر، لكنهم عادوا وأغرقوا المبادرة الفرنسية بمساعدة شيطان التفاصيل وكانت عقدة حقيبة وزارة المالية وشاغلها بمثابة الشجرة التي تحجب غابة أزمة النظام والتجاذبات الخارجية المعطلة.
وبعد مقارنة تبسيطية للدور الفرنسي المستجد مع الدور السوري إبان حقبة ما بعد اتفاق الطائف (علماً أن الفارق كبير بين الإمكانيات والأساليب والغايات عند الطرفين)، يتساءل بعض المتابعين عن سبب هذا الانخراط الفرنسي في لعبة معقدة غير مضمونة مع لاعبين داخليين وإقليميين غير موثوقين ويصل بهم الأمر للتساؤل عن فقدان باريس لخبرتها في سبر أغوار السياسة اللبنانية وتشعباتها ونسيان درس شارل ديغول عن كيفية الذهاب إلى الشرق المعقد أو عن تقييم جاك شيراك للوعود والتعهدات التي لا تلزم إلا من يطلبها؟
الأرجح أن إيمانويل ماكرون وفريقه اعتبرا أن الفرصة لا يجب تفويتها وأن لبنان الغريق والمنهوب والمنهك لا بد أن يتلهف للمساعدة الفرنسية، في ظل نوع من التخلي الدولي ومقاربة أميركية تتعامل مع لبنان على أنه تفصيل ضمن استراتيجية إقليمية وليس كملف قائم بذاته. بيد أن هذه الحسابات التي كانت تراهن على فرصة أو ثغرة اختراق، لم تأخذ بالحسبان أن التريث الأميركي لا يعني ضوءا أخضر وأن إيران المنتظرة لجو بايدن لن تسهل تلقائيا المهمة الفرنسية، وأن نهج المحاصصة عند المنظومة اللبنانية يخفي كل العقبات.
وسرعان ما تبين أن العقوبات الأميركية التي طالت اثنين من حلفاء حزب الله (مساعدي نبيه بري وسليمان فرنجية)، مما أسقط الرهان في طهران على إدارة فرنسية أحادية للملف اللبناني، وسرعان ما دخل الثنائي الشيعي اللبناني – من خلال التمسك بحقيبة المالية وإصراره على تسمية وزرائه في نقض لروحية المبادرة الفرنسية التي تتكلم عن حكومة اختصاصيين من غير الحزبيين- في مسعى لإعادة إنتاج حصته من أجل تسهيل تأليف الحكومة المنتظرة.
بالرغم من هذه العقبات، بدت باريس متشبثة بمبادرتها مع إدراكها أن لا بديل عنها وأن إعلان إنهائها يعني أخذ لبنان إلى المجهول. من هنا بعد كلام الرئيس ميشال عون عن تحميل مبطن لنادي رؤساء الحكومة السابقين مسؤولية التعطيل نظرا لتمسكهم بالمداورة في الحقائب السيادية ورفض ربط حقيبة المالية بطائفة محددة، ضغط الجانب الفرنسي على رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري كي يطلق مبادرة أعلن عبرها التنازل لمرة واحدة وأخيرة للطائفة الشيعية بتسلم حقيبة المالية شرط أن يكون الوزير من المستقلين الذين يسميهم الدكتور مصطفى أديب، مما أعاد رمي كرة التعطيل في شباك الثنائي الشيعي. من دون أن يعني ذلك أن اللعبة داخلية محضة بل لها تعقيداتها الإقليمية والدولية.
ومن الواضح أن لا الدول العربية التي يعول عليها من أجل تقديم المساعدات أو الدول الغربية ستكون مستعدة لذلك في ظل إعادة إنتاج حكومة كما يريد حزب الله أو الثنائي الشيعي. وينبغي في هذا الإطار الإشارة إلى أن الاعتراض على ما يجري في لبنان عبّر عنه بكل دقة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز حين تحدث عن انفجار المرفأ وتدهور الوضع اللبناني ودور حزب الله الذي وصفه بالإرهابي الإيراني وضرورة نزع سلاحه في معرض كلمته أمام “الجمعية العامة” لمنظمة الأمم المتحدة عبر تقنية الفيديو.
وفي نفس السياق أكد ديفيد هيل مساعد وزير الخارجية الأميركية أن “لا مساعدات للبنان من دون تغيير وإصلاحات وإنهاء سيطرة حزب الله”. أما مجموعة الدعم الدولية للبنان فقد دعمت مدرجات المبادرة الفرنسية للدفع باتجاه تفكيك الألغام أمام التشكيل الحكومي.
على ضوء هذه الوقائع يمكن أن يضعف حزب الله في حال إسقاط المبادرة الفرنسية، إذ ستواجهه باريس (كما تواجه كل من تعتبره معطلا) بأنه إذا لم تتألف الحكومة يكون هناك تخريب متعمد لإنقاذ لبنان. وعند ذلك ستصبح الطبقة السياسية اللبنانية مكشوفة أمام العقوبات الأميركية التي يمكن أن تطال شريحة أوسع من أركان الطبقة السياسية التي ارتبطت أسماؤها بالفساد وتسهيل الأمور مع حزب الله .
هكذا يتبين أن المبادرة الفرنسية دونها عقبات ليست داخلية وحسب بل عقبات خارجية كبيرة. إذ أن القبول بمطالب الثنائي الشيعي سيقود حكماً إلى تكرار تجربة حكومة حسان دياب مع حكومة مصطفى أديب. وهكذا فإن أيّ حكومة تراعي مطالب حزب الله سيتم التعامل معها من قبل واشنطن والرياض على أنها حكومة حزب الله مع ما لذلك من عواقب وتداعيات. حتى الساعة لم تكشف باريس عن الخطة “ب” في حال إحباط خارطة طريق مبادرتها وبما أن زمننا ليس زمن المعجزات سيحتدم الوضع اللبناني بانتظار رهانات وهمية على ترياق مجهول.