بقلم: خيرالله خيرالله – العرب اللندنية
الشرق اليوم- لا يستطيع مريضان معالجة مريض ثالث. يستطيعان نقل أمراضهما إليه لا أكثر. إيران مريضة. ترفض قبل كلّ شيء أن تكون دولة طبيعية والاعتراف بالأمراض المتنوعة التي تعاني منها. مثل هذا الاعتراف يمكن أن يكون خطوة أولى في طريق مباشرة العلاج الذي لا تزال “الجمهورية الإسلامية” ترفضه بقوّة وعناد.
وضعت تركيا نفسها على طريق إيران وذلك عبر الركض وراء الأوهام التي يصنعها عقل شخص مثل الرئيس رجب طيّب أردوغان الذي يؤمن للأسف بأنّ الفكر المتخلّف للإخوان المسلمين مستقبل المنطقة.
يعتقد أردوغان أن فكر الإخوان المسلمين سيسمح له باستعادة أمجاد الدولة العثمانية. لا يدرك أنّ مثل هذا الفكر هو الطريق الأقصر في اتجاه تحويل تركيا إلى دولة متخلّفة منغلقة على نفسها بدل أن تكون دولة قادرة على أن تكون نموذجا يحتذى به في المنطقة كلّها.
لا يستطيع المريضان الإيراني والتركي تقديم أي علاج للمريض الثالث الذي هو المشرق العربي الممتد من لبنان إلى العراق، مرورا بسوريا. وحده الأردن، على الرغم من كلّ المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها، بقي خارج دائرة المرض. بقي خارج المرض، أقلّه إلى الآن، بعدما سعى في مثل هذه الأيّام من العام 1988 إلى التأقلم مع الحقائق الجديدة في المنطقة، فاتخذ الملك حسين قرارا بفك الارتباط مع الضفّة الغربية التي احتلتها إسرائيل في العام 1967. أبعد نفسه باكرا عن كلّ ما يمكن أن يجعله، على نحو مباشر، أسير صراع فلسطيني – إسرائيلي لا يبدو قابلا للحلّ قريبا.
ماذا تفعل إيران المريضة في العراق وسوريا ولبنان، وهي كلّها دول مريضة؟ كلّ ما فعلته، وما زالت تفعله، في العراق، منذ سلّمها إياه الأميركيون، إبان عهد جورج بوش الابن في العام 2003 على صحن من فضّة، يتمثّل في الرهان على إثارة الغرائز المذهبية. اعتقدت أن الغرائز المذهبية ستضمن لها موقعا دائما في هذا البلد الأساسي في الإقليم والذي يظلّ عمقا في غاية الأهمّية لدول الخليج العربي.
تراهن إيران على تحويل العراق إلى تابع لها عن طريق ميليشيات يتكوّن منها “الحشد الشعبي” الذي ترى فيه رديفا لـ”الحرس الثوري”، الذي تحوّل إلى السلطة الحقيقية في “الجمهورية الإسلامية”. ليس “الحشد الشعبي” سوى مجموعة ميليشيات مذهبية تقودها شخصيات تتلقى أوامرها من طهران وتنفذ أجندة إيرانية. لم تقتنع إيران بأنّ ذلك ليس كافيا لإخضاع العراق وأنّ الشيعة العرب سينتفضون عليها وعلى مشروعها الذي لا أفق له. الدليل على ذلك، أن مصطفى الكاظمي في موقع رئيس الوزراء في العراق. على الرغم من أن الرجل ليس معاديا لإيران ولديه قنوات اتصال خلفية معها، يبقى الأكيد أنّه لو عادت الأمور إلى المسؤولين الإيرانيين، لما كان مصطفى الكاظمي في الموقع الذي هو فيه.
يريد المريض العراقي معالجة نفسه. يدرك أوّلا أنّه مريض ويدرك أنّ الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تكمن في إعادة الاعتبار إلى المؤسسات العراقية والانتهاء تدريجيا، من دون اللجوء إلى العنف، من “الحشد الشعبي” الذي ليس سوى لغم إيراني في الخاصرة العراقية.
هناك بعض الأمل بالعراق. سنرى هل ستتحقق، على أرض الواقع، إيجابيات بعد إجراء الانتخابات التشريعية المتوقّعة في حزيران – يونيو 2021. سيتبيّن عندئذ هل يمكن استعادة العراق وتخليصه من الأمراض التي نقلتها إليه إيران والتي ساهمت في تفشيها إدارتا بوش الابن وباراك أوباما؟
على العكس من العراق، حيث بدأت تترسّخ فكرة التخلّص من السلاح الميليشيوي والمذهبي لمصلحة سلاح الدولة، تغرق سوريا ولبنان في أمراضهما التي تغذيها إيران عبر سياسة تصبّ في القضاء نهائيا على البلدين. في سوريا، هناك رهان إيراني ودعم لنظام أقلّوي مفلس على كلّ صعيد لا مستقبل له، اللهمّ إلاّ إذا كان المطلوب تفتيت البلد نهائيا.
في لبنان، لم يعد من وجود لبلد قابل للحياة تصرّ إيران على استخدامه ورقة في المواجهة مع الإدارة الأميركية الحالية. بلغ الوضع في لبنان درجة من السوء، قال فيها رئيس الجمهورية ميشال عون، بعفوية ليس بعدها عفوية، لدى سؤاله إلى أين يسير البلد: “طبعا، رايحين على جهنّم”. هزلت مؤسسات الدولة اللبنانية بالفعل. ليس معروفا هل سيبقى شيء في لبنان بعدما عبثت به إيران معتقدة أن تحقيق انتصارات على اللبنانيين وعلى البلد الصغير سيجعلها في وضع أفضل في أي مفاوضات مع أميركا.
ماذا عن المريض التركي الآن؟ يعتقد هذا المريض أنّ لديه مستقبلا في المنطقة وأنّ في استطاعته الاستفادة من أمراض الآخرين. مشكلة هذا المريض، إذا وضعنا وجوده في سوريا جانبا، أنّه لم يستطع إقامة علاقات طبيعية مع أي طرف إقليمي. لم يعد يعرف أين الحدود التي يفترض به التوقّف عندها. قد تكون مشكلته الأساسية في أنّه لا يعرف أن ليست لديه تجربة ناجحة يقدّمها للآخرين. ذهب أردوغان إلى ليبيا. ما الذي يستطيع تقديمه لليبيا، أي دور تركي في ليبيا غير دور ترسيخ القطيعة بين الليبيين والمناطق الليبية ودعم التنظيمات المسلّحة المتطرّفة؟
بدل أن تكون تركيا خير جار لليونان وقبرص، إذا بها تستفزّ بلدين مسالمين يعمل المسؤولون فيهما من أجل مستقبل أفضل لشعبيهما في إطار الاتحاد الأوروبي. ساعد الاتحاد الأوروبي اليونان وتركيا على التعافي بعد أزمتين اقتصاديتين عميقتين مرّ فيهما البلدان. لماذا ترفض تركيا التعاطي مع أوروبا بطريقة عادية والاستفادة منها في مجالات مختلفة بدل اللجوء إلى الابتزاز والمزايدات والاستفزاز؟
يمكن لتحويل أيا صوفيا إلى مسجد آخر في إسطنبول بعدما كانت آيا صوفيا كاتدرائية ثم متحفا. ماذا بعد ذلك؟ ما الذي يفيد من إثارة مثل هذا الشعور الديني لدى بعض الأتراك البسطاء؟ الأهمّ من ذلك كلّه… كم سيدوم ذلك؟ هل يعتقد رجب طيّب أردوغان أن مثل هذا التصرّف سيعيد الاعتبار للعملة التركية (الليرة) التي تتدهور بشكل مستمر؟
لا يستطيع مريضان معالجة مريض ثالث. يفترض بكلّ مريض معالجة نفسه أوّلا. تحتاج إيران إلى العودة دولة طبيعية. ما ينطبق على إيران ينطبق على تركيا أيضا. المريض لا يعالج مريضا. أقصى ما يستطيع عمله هو نقل أمراضه إليه. هذا ما تفعله إيران وهذا ما تفعله تركيا في المنطقة…